رمز الأمومة في أعمال النحات هنري مور

د. جمال العتّابي

أجبرت ظروف الحرب العالمية الثانية النحات الإنكليزي “هنري مور على اللجوء إلى الرسم، ومع ذلك جرى تكليفه في عام 1943 بنحت تمثال “السيدة العذراء والطفل” لكنيسة القديس “ماثيو” في “نورثامبتون”. كان هذا التمثال هو الأول من بين العديد من الأعمال النحتية التي نفّذها “مور” في أعقاب الحرب العالمية الثانية مباشرة.

اختيار مور لتنفيذ هذا العمل لم يأت اعتباطاً، بل اعتمد موروثاً من الموضوعات التي عالجها “مور” في أعماله ذات الخصوصية في تناوله المرأة، الأم والطفل، ضمن رؤاه وأسلوبه في العمل. هذا الموضوع الذي عالجه الفنانون عبر العصور، تميز بقدرته على جذب الانتباه وإثارة إعجاب المتلقي منذ النظرة الأولى.. ولعل هذه الطبيعة الخاصة لموضوع الأمومة، الذي تناوله هنري مور بكثرة، هو أحد أسباب شهرته العالمية التي حققها في حياته، التي لم تتحقق إلا لعدد نادر من الفنانين.
الأمومة، كموضوع للعمل الفني، اتخذ أشكالاً متعددة على مرّ العصور، وفي كل حضارة من الحضارات العظيمة اتخذ شكلاً يتماشى مع القيم والمفاهيم السائدة، مرة كتعبير عن الخصوبة والأنوثة، ومرة كرمز لكل ما هو إنساني لدى البشر. كما نجده أحياناً يتوارى خلف موضوع ديني أو أسطوري، حتى يصعب على المتلقي التعرف عل دلالاته، وهناك الفنانون الذين يلامسون عواطف الجمهور، فيتخذ الموضوع لديهم مظهراً في غاية الرقّة والرهافة، ولكن بلا عمق فكري.
قوة التعبير
يتميز الموضوع عند هنري مور بقوة التعبير وعمق المعنى، مع المحافظة على صفات الحجر أو المعدن الذي شكّل منه التمثال، وكثيراً ما نجد الأم وقد احتلت مكان الصدارة في العمل الفني وأصبحت محوره الرئيس، وأحياناً يجتذب الطفل اهتمام المتلقي ويحتل أهم نقطة في التمثال.. وفي بعض الأحيان يضيف طفلاً آخر مع الأب، مكوناً تمثالاً للعائلة من مجموعة أشخاص. وبالرغم من ذلك تظل رموز الفنان ودلالات الأمومة هي موضوع العمل، بوصفه احتفالاً وتمجيداً لمعجزة الخلق والولادة، حتى لو اتخذت الأم مسحة من القداسة كنموذج للأم الأسطورية آلهة الخصب عند القدماء، أما الطفل فهو دائماً رمز الحياة نفسها التي تتجدد في كل عصر.
أسلوب رمزي
محاولة حصر الدلالات الرمزية لهذا الموضوع، كما تناوله هنري مور، تدعو إلى تأمل اللحظة التي يعبّر فيها الفنان عن الأم كرمز للأنوثة في الطبيعة لمواجهة الذكورة.. أو يصوّرها كمصدر لغذاء الطفل وسبب استمرار الحياة فيه، وفي بعض الأحيان يكشف الفنان عن بعض الجوانب النفسية الدفينة في علاقة الأم بطفلها، والطفل بأمه، هذه العلاقة التي تنتابها في بعض اللحظات الشاذة كراهية مدفونة تحت الحب الشديد. أو يركز على طبيعة حماية الأم لابنها وما تتطلبه هذه الحماية من القوة والشراسة، أو أنانية الطفل ورغبته في الاستقلال ثم مطالبة الأم للأب بالمشاركة في تحمل الأعباء والقيام بدوره الأبوي في الأسرة.
وعندما تعرض هنري مور للتعبير عن كل هذه الموضوعات، لجأ إلى الأسلوب الرمزي الذي يفرضه عليه فن النحت وخامته، ومع هذا لم يتّجه إلى المبالغة، بل عمل على تحقيق أفكاره في أبسط شكل يوصله مباشرة للمتلقي، وقد اعترف الفنان بأن هذا الموضوع ظل يلحّ عليه طيلة حياته الفنية منذ عام 1922، عندما التحق بالكلية الملكية للفنون الجميلة في لندن.
وهناك رأي لعلماء النفس في تفسير أسباب هذا الإلحاح، يرجع إلى طفولته المبكرة عندما كان يقوم يومياً بتدليك ظهر والدته المصابة بالروماتزم، والأثر العميق لهذه التجربة في ذاكرته اللمسية، بوصف النحت فناً يتعامل إلى حد ما مع حاسة اللمس، وقد أضيفت إلى هذه التجربة المبكرة تجربة أخرى عندما أنجبت زوجته “آيرينا” طفلتهما الأولى عام 1946، وما استتبع ذلك من تجارب منزلية مبهجة، كان لها أثر عميق في تطور فنه ودور واضح في اختيار موضوعي “الأم والطفل” و “المرأة المستلقية”، كموضوعين محببين عالجهما في تماثيل متتالية.
يعيد هنري مور صياغة جماليات الجسد الإنساني ليكشف فيه أعمق العواطف الإنسانية، متأثراً بالنحت المصري القديم، والمكسيكي قبل اكتشاف الأميركتين، وبالفن السومري كذلك، ليكون تراثاً ملهماً له، وسخّر مور قوة الحجر وصلابته في خدمة التعبير عن حماية الأم لابنها بقوة وتمسكها به. لكنه عندما ينحت في الأحجار البلورية الشفافة، مثل الرخام، فإنه يصقلها بعناية لتعبّر عن بشرة الطفل الرقيقة وصدر الأم الناعم الذي يرضع الطفل، وهذا ما يعبّر عنه النقاد بالقول: “احترام الفنان للخامة.” وهي تمثل قدرته على توظيف خصائص الخامة في خدمة الموضوع.
إيقاع موسيقي
أما الجمال الشكلي في أعمال هنري فيأتي عن طريق نوع من الإيقاع في الأجسام شبيه بالإيقاع الموسيقي، ومثال ذلك تمثاله الذي تقف فيه الأم منتصبة وهي تحضن طفلها بين ساعديها، والإيقاع يتحقق من تشابه في الشكل والملمس الناتج عن صقل وتلميع نقط الارتكاز التي تلتقي عندها عين المشاهد في كل من رأس الأم المتكورة وكذلك رأس الطفل، ثم في ثديي الأم وركبتي الطفل.. هذه الكتل المتشابهة الاستدارة والملمس تحقق ما نسميه بالإيقاع الشكلي الذي يمنح المتعة والراحة لدى المتلقي.
الأمومة من أكثر الموضوعات خصباً وثراءً وأحبّها لدى الفنانين، لأن مادتها هي الجسد الإنساني، وهو أكثر الأشكال الفنية حساسية وامتاعاً للمتلقي، فجسم الإنسان ليس الشكل الذي تقع عليه العين، إنما هو وعاء الحياة ومحور كل حواسّنا وتطلعاتنا. ومن بين فناني العالم كان النحات العراقي من أولئك الذين أسهموا في تجسيد المرأة في تجاربهم الفنية، وتناولوها كموضوع للتعبير عن الأمومة والجمال. كان جواد سليم في مقدمة هؤلاء الفنانين، كذلك تأثر النحات عبد الرحيم الوكيل الذي درس الفن في إنكلترا بالنحات هنري مور، وفي أعمال النحات صادق ربيع تأثيرات واضحة لهنري في أغلب أعماله الفنية.