عادل مكي/
الهوية الثقافية المطعمة بالفنون هي المصدر الحقيقي لمدنية الأمم ورقيّ الشعوب، إذ لا شك في أن الإرث المتراكم والموثق هنا هو مؤونة أجيالها، كما أن ضياع هذا الإرث يمثل مسحاً للذاكرة. لذلك فإن الابداع الفني المميز الذي خلفه لنا السلف من جيلي الستينيات والسبعينيات في حقل الغناء والموسيقى ما هو إلا علامة فارقة، يحق لنا أن نفخر ونباهي به لأنه كان أصيلاً متجذراً يحمل بصمات عراقية بامتياز.
إلا أن ذلك الإبداع قد ضاع الكثير منه، أو مسح، أو لم يدون. وليست هناك جهة حكومية أو نقابية حملت مسؤولية الحفاظ عليه من عوامل الزمن المختلفة، لذا ضاع ما ضاع، وفقد ما فقد، فصرنا بلا تاريخ فني مؤرشف يوثق ذلك الإبداع.. كالأغنية البغدادية والريفية وأغاني المقام العراقي وأغاني ومواويل المنطقة الغربية، وحتى الأغاني الآشورية والكلدانية والكردية.
الغياب والاندثار كانا قاسيين، كما حدث مع بلبل الجنوب والصوت الساحر (ستار جبار ونيسة) الذي لم ينصفه الزمن ولا الأقدار. صوت مزلزل بنبرات مشحونة بالوجع والمكابدة. هو نجل المطرب الريفي جبار ونيسة. ولد ستار جبار لأب مسلم وأم صابئية. منذ سنواته الأولى كان يستمع إلى صوت والده الذي امتلك حنجرة فخمة وأداء رائعاً، ومنذ نعومة أظفاره كان يطربه صوت والده وهو يتغنى بطور مبتكر هو طور (الصبّي) الذي ابتدعه وأصبح طوره الخاص، كما أنه أجاد في غناء أطوار عديدة كطوري (الحياوي) و(الغافلي) المتداولين، كذلك طور (الشطيت) الذي اشتهر به المطربان خضير حسن ناصرية (خضير مفطورة) ومحيي يوسف. أما طور الصبي الذي ابتكره وتخصص به، فقد غناه الكثير من المطربين في تلك المدينة.
تقدم ستار جبار للاختبار كمطرب، وكانت لجنة القبول تضم روحي الخماش وكوكب حمزة ومنير بشير وسمير بغدادي، فلم ينجح في الاختبار بالرغم من صوته الجميل وأدائه المميز. بعدها انضم إلى فرقة الإنشاد العراقية لتطوير ذاته موسيقياً، وتهذيب صوته أكثر بالأسلوب الصحيح في النطق السليم، إلى أن نال فرصته الذهبية في أغنية (أفز بالليل) من كلمات الشاعر عريان السيد خلف وألحان محمد جواد أموري. بعد ذلك استمع إلى صوته الفنان المبدع كوكب حمزة، فلحن له أغنية (افيش بروج الحنية)، ليقدمه لأول مرة كمطرب للجمهور، لكن سبباً ما أحال دون ذلك، فأصبحت الأغنية من نصيب المطرب سعدون جابر. ومن ثم سجلت أغنية (أفز بالليل) في الإذاعة، بعدها سطع نجمه أسوة بالفنانين الذين كانوا معه، أمثال فاضل عواد وحسين نعمة وسعدون جابر، وأعطاه ملحنون آخرون بعضاً من ألحانهم التي كتب كلماتها كبار شعراء الأغنية العراقية، كالشاعر الغائب ذياب كزار (أبو سرحان) والشاعر الراحل كاظم الركابي.
ومن أغانيه الشهيرة التي عرفها جمهور الأغنية اضافة إلى أغنية (أفز بالليل) كانت أغنية (شدات الورد) وأغنية (الولد نام)، وأغنية (مسامحك)، وأغنية (ماجنك هذاك انت)، وأغنية (على جف العتاب). كما غنى ستار باقتدار مبدع وأداء ساحر كثيراً من أغاني الفنان حضيري أبو عزيز. ومن الحوادث التي تذكر عن ستار أنه عندما جاء إلى العاصمة قدمه أحد أصدقائه إلى المطرب حضيري أبو عزيز الذي عندما سمع صوت ستار أجهش بالبكاء بحرقة، ثم أكرمه بمبلغ يعتبر كبيراً في ذلك الوقت قدره عشرة دنانير! جدير بالذكر أن الفنان الراحل ستار جبار كان يمتلك روحاً مغمسة بالجمال والترافة والحياء المفرط، ما أضاع عليه الكثير من الفرص، لكونه إنساناً خجولاً ذا أخلاق عالية وقلب مترع بالطيبة والسخاء.
عاش مع زميل عمره الفنان الراحل رياض أحمد في منطقة (النزيزة)، الكرخ – الرحمانية، شقة (مزهر الفجيجي) عام 1978، ثم انتقل إلى (حارة المكاصيص) مقابل ملعب الزوراء حيث كان يعيش في بيت قديم آيل للسقوط بالعاصمة بغداد فترة الحصار والحروب.
ومع استمرار انقطاعات التيار الكهربائي، في ليلة كان فيها الظلام يخيم على المدينة، وفي بيته المتواضع كان يخزن (البنزين) في غرفة على سطح داره، وفي إحدى الضربات الجوية على بغداد في حرب الخليج الثانية، وانقطاع الكهرباء، هـَمّ ستار بإحضار القليل من البنزين، وكان في يده فانوس أو (لالة) مشتعلة لإضاءة المكان، وما إن فتح غطاء برميل البانزين حتى شـَبّت النيران واشتعلت لتحرق المكان، ولتلتهم جسده، على الرغم من محاولاته إنقاذ نفسه. ولأنه كان وحيداً في المكان لم يستطع أحــد إنقاذه. وظل يعاني بضعة أيــام من جراء تلك الحروق التي أصابت جسده في أحـد مستشفيات بغداد، ثم فاضت روحة إلى السماء، من دون توديع أو مجلس عزاء، ليموت غريباً كما عاش غريباً، ولم تذكره الصحافة إلّا فيما ندر، ولم تسلط الأضواء عليه وعلى منجزه الفني، كما أن معظم أعماله وتسجيلاته التلفزيونية ضاعت في مهب الريح، فأصبح في خانة النسيان الأبدية كحال الكثيرين من الفنانين والأدباء.