عادل مكي/
واهمٌ من يظن أن الحيّز الغنائي ما بين كوكب الشرق وجارة القمر كان حيزاً تنافسياً محموماً، وأن علاقتهما محكومة بالإقصاء من أجل البقاء، لأن كوكب الشرق أم كلثوم وجارة القمر فيروز، قامتان فنيتان عربيتان شكلتا تراثاً ثقافيّاً وإنسانياً خالداً يخلو من كل أساليب الاحتكار ونوايا الاستحواذ الفني، شبّت وشابت عليه جميع الأجيال.
أتذكر، في منتصف السبعينيات جمعتني الصدفة مع أحد اقاربي في بيته، وكان رجلاً متوسط العمر يجلس ساعات طوال -دون كلل أو ملل- في انتظار أن تبث إذاعة صوت القاهرة من مصر، عبر مذياعه الذي كان يحتوي على شريط كاسيت (بكرة)، بانتظار آخر حفلات سيدة الغناء العربي أم كلثوم، كي يقوم بتسجيلها والاحتفاظ بها، فقد كان مهووساً بالسيدة حد الجنون، ويضع صورها في كل زوايا الدار والأمكنة. وقتذاك لم أجد تفسيراً منطقياً لهذا الولع، لكنني عندما كبرت واشتد عودي أدركت أن هذا الرجل، ومثله الكثيرين، قد اكتشفوا عوامل فنية ذات قدر عالٍ من السحر والانجذاب في صوت تلك المعجزة الربانية، لذلك بدأت بالاستماع إليها، وكانت أغنية (الحب كله) هي بدايتي في رحلة استكشاف ذلك الصوت الهادر.
على جانب آخر، كان عمي يمتلك مقهىً صغيراً (چايخانة) على الجدار الملاصق لسينما بابل في شارع السعدون، ولديه راديو من النوع القديم (أبو اللمبات)، تصدح فيه كل صباح أغاني السيدة فيروز، ذلك الصوت الساحر الذي يجذبك إليه دون أن تعلم. لذلك سحرني صوتها وطريقة غنائها وأسلوبها البسيط في السهل الممتنع، الذي يبهرك بقوة أدائه المتقن والمتمرس، ولاسيما عند ساعات الصباح الأولى وهي تغني (شايف البحر شو كبير)، فلفتت أسماعي وانبهاري بها، وهنا تساءلت مع نفسي في لحظة تجلٍ: “لماذا قريبي مغرم بأم كلثوم وعمي بفيروز؟ ولماذا تبث أغاني أم كلثوم بعد المساء، وأغاني فيروز عند الصباح؟”
وخلال سنوات كثيرة، ولكوني عشت بين ثنايا الستديوهات الموسيقية، تعرفت فيها وعملت مع أبرز وأروع الموسيقيين والموزعين ومسجلي الأغاني المخضرمين، انتبهت إلى مكامن الإبداع الصوتي والغناء المتفرد لصوت أم كلثوم ولعبقرية غناء فيروز المتقن حد السيف، وهنا زاد تعلقي بأم كلثوم من جهة وبالسيدة فيروز من جهة أخرى، وفيما يخص قضية الفوارق بين تلك القامتين فلابد من الولوج إلى خواصهما النغمية لمعرفة خصائص كل صوت، وقد أجريت تجربة عالمية لتمييز الأصوات البشرية الأعلى تردداً على مقياس التردد الراديوي (هيرتز)، فكان صوتا أم كلثوم وفيروز هما أعلى الطاقات الصوتية التي ظهرت في التاريخ الحديث، وبعبارة أدق خلال آخر مئة سنة، إذ إن صوت أم كلثوم ينتمي إلى ترددات أرضية ترابية مادية، وهو أكثر الأصوات انطباقاً على السلم الموسيقي في الحسابات الرياضية، وأيضاً اتضح أن صوتها وصل إلى أعلى ذبذبة بقياس 3966 ونصف الذبذبة في الثانية الواحدة، أي أنها تربعت على عرش القائمة بـ 306 (أوكتاف)، ونسبة النشاز في صوتها لا تتعدى الواحد في الألف من البعد الطنيني الكامل. أما السيدة فيروز فتمتلك مساحات صوتية واسعة، إذ إن بإمكانها الوصول إلى القرار للطبقات المنخفضة، كما أنها تمتلك جواب الطبقات العالية من الصوت العالي جداً، ولو وضعت في مقارنة مع صوت أم كلثوم سنجد أنها المنافسة الأولى لها، فصوتها ينتمي الى ترددات فلسفية أثيرية وروحية، تمتاز بنقاء الصوت واتساع المساحة الصوتية الطبيعية في الغناء والأداء، وباستطاعتها غناء أدق التفاصيل بأريحية ودون تكلف، فصوتها يمزج بين الصوت المستعار والصوت الطبيعي، وهي المنافس الأوحد لصوت أم كلثوم، كما أسلفت، لأنها تتفوق عليها في الطبقات العالية، غير أن أم كلثوم تتفوق عليها بالقرار الأعمق في الصوت بدرجة أو درجتين.
اما المقارنات الوجدانية ما بين القمتين، فإن أم كلثوم قوية في الحب، وترى أن وجوده كرامة أدخلتها الحياة في أتونها وأخرجتها امرأة صعبة المراس، تغني للحب الجارف الصادق والصعب والمؤلم بعد تجارب قاسية ومريرة ومذلة، أدركت في نهايتها أنها أخفقت مع من تحب، ومع ذلك فإنها تغني له بكل كبرياء، لتبعث له رسائل تكون في بعض الأحيان مشفرة تفصح عن حبها ووجدها المحرق.
أما فيروز، فإنها ضعيفة لا ترى كرامة في الحب، تغني للبدايات الوردية للحبيب المثالي الذي لا عيوب فيه فتغفر له، تغني للحب الخارج عن المألوف، وتبقى في انتظار من تحب تحت شرفات البيوت العتيقة وفي الضيعات المترامية الأطراف، بحثاً عن ذلك (الغايب) الذي قد لا يعود، فتاة حالمة بفارسها الذي سيأتي على حصان أبيض يحمل لها قارورة عطر وشالاً أحمر، فصوتها وقوامها النحيف وبساطة ونعومة الكلمات، ساعدتها على ذلك الأمر، وأيضاً وقوفها وثباتها على خشبات المسارح التي أضافت إلى رمزيتها حالة من الوقار وعزة النفس للفتيات الصغيرات اللواتي لم تختبرهن الحياة القاسية بعد. والغريب هو أن أجمل مفارقة زمنيّة ذوقية خُصت بها هاتان القامتان دون غيرهما هي: لماذا نسمع أغاني فيروز صباحاً وأم كلثوم مساءً؟ والجواب إنه بخصوص فيروز فإن ذلك يعود إلى طبيعة أغانيها الإشراقية البهيجة والمغمسة بندى البدايات، لذلك تحتم عليها أن تكون صباحية بامتياز، على عكس أغاني أم كلثوم المركبة التي تحتاج إلى التركيز العالي والسلطنة، كونها أغاني طويلة فيها مساحات واسعة من الغناء، وهي عادة مكتسبة آنذاك، لأن الإذاعات العربية بدأت بثها بهذا التقسيم المنغم الذي صار قانوناً لا يجوز المساس به مهنياً وفنياً، لذلك صار لزاماً أن يكون هذا التقسيم أشبه بالتسريع الموسيقي الذي لا يبدل ولا يُغيّر، باعتبار أن القيمة الغنائية وديمومتها مرتبطتان وجدانياً وزمنياً بذاكرة الشعوب.