ضحى مجيد سعيد
شهدت بغداد انطلاق مهرجان بغداد الدولي للمسرح بدورته الخامسة في العاشر من كانون الأول المنصرم، إذ أعادت العاصمة العراقية نبض الحياة الثقافية عبر عروض مسرحية متنوعة أُقيمت على مسارح بارزة، مثل المسرح الوطني، ومسرح الرشيد، ومسرح المنصور.
استقبل المهرجان، الذي يعد بوابة للثقافة والإبداع فرقًا مسرحية من دول عربية وأجنبية، ليقدم عروضًا مبهرة عكست عمق التنوع الثقافي والإبداع المسرحي.
جاءت هذه الدورة تكريمًا للأكاديمي والمخرج المسرحي الراحل شفيق المهدي، الذي يعتبر رمزًا للفن العراقي وداعمًا للحركة الثقافية. هذا الاختيار يعكس وفاء المهرجان لرواده الذين أسهموا في بناء المشهد الفني العراقي.
تجلى عن هذا المهرجان مزج المسرح العراقي بين العالمية والمحلية، إذ تميز، ليس فقط باستقطاب فرق مسرحية عالمية، بل أيضًا بتقديم ورش عمل تخصصية للشباب العراقي. هذه الورش، التي ركزت على تطوير المهارات المسرحية، عززت مكانة المهرجان كمنصة تعليمية وإبداعية تجمع بين الموهبة العراقية والخبرة العالمية. واختتم المهرجان أعماله بتكريم المبدعين، وكان منهم المخرج جواد الأسدي، الذي كانت لنا معه وقفة في محطة مسيرته الفنية.
أفضل مخرج
كان المخرج العراقي جواد الأسدي أحد أبرز المكرّمين في المهرجان، إذ حصل على جائزة أفضل مخرج عن مسرحيته (سيرك). الأسدي المولود في بغداد عام 1947، يُعد أحد أعمدة المسرح العراقي، حصل على تعليمه الأكاديمي في أكاديمية الفنون الجميلة ببغداد عام 1972، ثم نال الدكتوراه من بلغاريا عام 1983. فرّ الأسدي من (النظام السابق)، وبعد سقوطه عاد إلى بلده العراق. أمضى 25 عامًا خارج العراق في العديد من الدول العربية، ودائمّا ما يُعلن عشقه لبغداد ويعتز بجذوره الكربلائية، وحصد الجوائز في المهرجانات السابقة على مستوى الإخراج والتمثيل.
جواد الأسدي، المخرج والمؤلف المسرحي العراقي، أوضح لنا: أنه حاز عام 2004 على جائزة الأمير كلاوس للمسرح، وعمل لمدة 14 عامًا مع المسرح الوطني الفلسطيني، ولاحقاً مع المعهد العالي للفنون المسرحية في دمشق، وعمل مع مؤسسات مسرحية عربية وأوربية، ليعود إلى بغداد ويقدم أعمالًا مميزة، مثل (تقاسيم على الحياة) و(حنين بارد) و(أمل)، وأخيرًا (سيرك).
وأضاف: “كنت باستمرار أحس بالوجع عندما تتوج مسرحياتي في مهرجانات أوربية أو عربية، بسبب غياب ذلك الشريك الروحي والإنساني (الجمهور)، وغصّتي كبيرة لغيابي عن البلاد، ومغادرة الجمهور العراقي الذي كان الأساس الروحي والإنساني لعروض المسرح الفني الحديث، فإعجاب الناس بعروضي المسرحية هو التتويج الحقيقي لمشروعي المسرحي ويمثل بالنسبة لي أفضل جائزة.”
يبين الأسدي أن “التنوع في إخراج عملي المسرحي مع ممثلين عرب في دمشق أو تونس أو الإمارات والمغرب.. إلخ، منحني إمكانيات كبيرة في التوغل إلى خواص وأرواح وثقافات الممثلين العرب والأوربيين، لأن خواص الممثلين وطبعهم وبيئتهم تعطي حساسية التمثيل نكهة من نوع آخر، مثلاً عندما عملت مع الممثلين السويديين، أو الإسبان، أو الفرنسيين، كنت أجر الممثلين نحو إيقاع تمثيل مُتفجر وحار وعنيف، على عكس ثقافاتهم الأوربية التي كانت تقوم على البرود والتلقي الباهت، لذلك في التمارين وخلال العروض المسرحية للجمهور كانت هنالك مصادمة إيقاعية وذوقية قوية.”
جوهر العمل المسرحي
تحدث الأسدي عن الممثلين واختيارهم قائلاً: إن “التمثيل هو جوهر العمل المسرحي، وأنا أولي اهتمامًا خاصًا في اختيار الممثلين بعناية، مع التركيز على قدرتهم على التجديد والابتكار في كل مرحلة من مراحل العمل، وأنا أنظر إلى البروفات المسرحية على أنها ليست مجرد تدريب، بل عملية إبداعية مشتركة تعكس الروح الحية للممثل والعمل الفني، وأن الممثل يجب أن يجري اختياره بناءً على تقصي حالاته السلوكية وطبعه الإنساني أولًا، وثانيًا قدراته على الصبر في البروفات الطويلة أو الشاقة، وأيضا على إمكانياته في تجديد روحه وجسده، وعدم الوقوع في فخ التحول إلى تمثال شمعي، لأن قدرته على هضم التجديد اليومي في التمرين يُحدِث الطلاق المهني مع الممثل عندما يكرس العودة إلى تنفيذ البروفات تنفيذًا ميكانيكيًا، وعندما يكف عن منح حياة التمارين ذلك التجديد العاصف في تطوير بنية الشخصية شكسبيرية كانت أم جيكوفية… إلخ، لذلك أقول: تُثمِر علاقتي مع الممثل الطري عاشق يوميات البروفات، ولديه ذلك الزاد الشهي في إعطاء البروفات دما حارًا وألقا مبتكرًا.”
تحديات الفن العراقي
وتطرق إلى تحديات المسرح في العراق قائلاً: “على الرغم من نجاح المهرجان، إلا أن التحديات التي يواجهها الفن العراقي اليوم كبيرة، فإنه يمر في مأزق تاريخي ناتج عن غياب دعم السلطة للثقافة وعدم رغبتها في بناء مجتمع مدني يدرك أهمية الفن كجزء من الهوية الوطنية، وأن هذا الانفصام بين السلطة والمثقفين الحقيقيين (الذين يمكن وصفهم بأنهم شوكة في حنجرة السلطة، خصوصاً مَن يرصدون اختلال الحياة والفن والمعرفة في مراحل الدكتاتوريات والتعسف والعنف، الانفصام خلق حالة من الإهمال للفن العراقي)، سواء كان في السينما، أو المسرح، أو التلفزيون.”
بغداد الفن والإبداع
اختُتم المهرجان بقائمة من العروض التي عكست المستوى الفني الراقي للمشاركين، مشددًاً على أهمية الجمهور العراقي كمصدر إلهام وشريك روحي للفنانين، وبذلك أكد مهرجان بغداد الدولي للمسرح دوره، ليس فقط كمنصة للعروض الفنية، بل أيضًا كجسر يربط بين الثقافات ويعزز مكانة بغداد كعاصمة للفن والإبداع.
يبقى مهرجان بغداد الدولي للمسرح شهادة حية على قدرة الفن في تجاوز الأزمات. وبينما يواجه الفن العراقي تحديات كبيرة، فإن مثل هذه الفعاليات تمثل خطوة مهمة في استعادة الهوية الثقافية وترسيخ الأمل.
جدير بالذكر أن هذا العمل عرض قبل أيام في مهرجان المسرح العربي في مسقط – سلطنة عُمان، الذي تقيمه الهيئة العربية للمسرح وحقق أصداءً كبيرة.