إيفان حكمت/
أزقة ضيقة متهاوية، بيوتات تتكئ على بعضها بعد أن جرف الزمن جمالها المعماري الذي كان مدعاة فخر وزهو البغداديين نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. هناك، في تلك الخرائب، تنتشر ورش صناعة العود العراقي وكأنها تتماهى مع هذا الخراب الذي بدأ يزحف على صناعة هذه الآلة الموسيقية التي يمتاز العراق بصناعة أجود وأغلى أنواعها، حتى أن كبار الموسيقيين العرب يحرصون على اقتناء العود العراقي، هذه الصناعة تمر بحالة احتضار حقيقي.
يقول صانع العود (الأسطة حسن العوّاد)، وهو يجلس وسط فوضى ورشته الرطبة في منطقة جديد حسن باشا المتفرعة من شارع الرشيد، في حديث لـ”الشبكة”: إن “بعض العوّادين ترك مهنته بعد أن ضاقت بهم سبل العيش، حيث لم تعد مهنة صناعة العود ترد عليهم ما يسد الرمق وما يفي بالتزاماتهم العائلية.” مطالباً الدولة، ممثلة بوزارة الثقافة، بإنقاذ هذه المهنة التي تفرد لها بلدان مثل مصر وتونس ورشاً خاصة بإشراف فنانين عراقيين على رأسهم عازف العود المتميز نصير شمّة.
سلطان الآلات
منقوش على حجر!
تؤكد البحوث والدراسات التاريخية على أن أقدم الدلائل الأثرية التاريخية لآلة العود تعود إلى 5000 عام، حيث وجد الباحثون أقدم أثر يدل على آلة العود في بلاد ما بين النهرين والجزيرة السورية حيث وجدت نقوش حجرية تمثل نساء يعزفن على آلة العود.
وكانت آلة العود في البداية خالية من المفاتيح وبدأت بوتر واحد ثم بوترين وثلاثة واستقرت في العصور الحديثة على أربعة أوتار حتى أضاف إليها زرياب الوتر الخامس فيما أضاف اليها الموسيقار العراقي منير بشير وتراً سادساً.
العود، سلطان الآلات وجالب المسرّات، كما يطلق عليه، تقدم على جميع الآلات الشرقية على العموم، والعربية على الخصوص، حتى أنه تخطى الأمم الشرقية وانتقل إلى الأندلس بانتقال العرب إليها وتعداها إلى أوروبا، ثم انتقل اسمه معه ولازمه في كل مراحل تطوره ويطلق عليه بالإنكليزية اسم (لوت).
ويعود تاريخ صناعة آلة العود العربي إلى القرن السادس الميلادي عندما احتك العرب بالفرس فأخذوا عنهم هذه الصناعة التي أبدعوا فيها وطوروها حتى تصبح الآلة الأولى في التخت الموسيقي العربي.
محمد فاضل.. سلطان الصنّاع
ومن أشهر صنّاع العود في العراق الحديث الراحل محمد فاضل الذي خرجت من ورشته الصغيرة في زقاق موازٍ لسوق السراي، وسط بغداد، أعواد عزف عليها الموسيقاران محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش وغيرهما الكثير من كبار العازفين العراقيين والعرب، كما تتلمذ على يديه كبار صنّاع العود في بغداد.
يقول (الأسطة شوقي الخزرجي)، أحد تلامذة الصانع الشهير محمّد فاضل الذي سار على خطاه في صناعة العود: إن “من يجيد العزف على آلة العود يتذوق طعماً خاصاً بصوت العود العراقي.”
ويضيف الخزرجي “للشبكة”: “إلى اليوم لم ينافس أحد صنّاع العود في العراق على جودة صناعتهم، فكلّ تفصيل في العود العراقي تتم صناعته يدوياً”، مشيراً إلى أن “العود في العراق لا يزال يصنع بشكل يدوي، ابتداءً من القصعة (الصندوق الصوتي) وانتهاءً بأعمال الصبغ والتلميع”، موضحاً أن “صناعة العود الواحد تستغرق من شهر إلى أكثر من ثلاثة أشهر، وورشة محمد فاضل بذروتها لم تنتج أكثر من مئة عود في السنة، في حين بعض الورش في تركيا وسوريا تنتج هذا الرقم خلال اسبوعين أو ثلاثة، وهو الأمر الذي يؤثر على جودة العود.”
ويباع العود العراقي اليوم في السوق المحلية بأسعار تبدأ من 400 دولار أميركي للعود التعليمي، وتصل هذه الأسعار إلى أكثر من2000 دولار للعود ذي الجودة العالية، في حين تبدأ أسعار العود التركي بـ85 دولاراً أميركياً.
ويلفت الخزرجي الى أن “المكننة لم تصل الى العود العراقي بسبب ضعف الطلب وكلفة الشحن العالية الى دول الجوار وعدم وجود تسويق يليق بتاريخه وسمعته.”
ويقول الخزرجي إن “رحلة البحث عن الأخشاب لصناعة عود فاخر شاقّة جداً، تبدأ من محال الأنتيك علّنا نجد صندوقَ ملابس من خشب السيسم الهندي، وهو أفضل أنواع الأخشاب وأكثرها رغبة من العازفين.”
ويضيف الخزرجي أن “الأخشاب الأخرى التي تستخدم في صناعة العود غير متوفرة بشكل دائم ومكلفة جداً، وعلى رأسها المفاتيح الأبنوس، وخشب وجه العود المستخدم من خشب السيدر (الأرز) اللبناني، والأخشاب العراقية المتوفرة لصناعة القصعة هي النارنج، والجوز الموجود في ربوع شمالنا الحبيب.”
ومثل كل الصناعات العراقيّة التي توقّفت بشكل كامل، يقول صنّاع العود إن الآلة المصنوعة في الداخل لا تلقى اهتماما بتسويقها بالرغم من الطلب عليها بينما، بالمقابل، فإن الآلة المستوردة قد أخذت طريقها إلى البلاد أيضاً، ومن ناحية الشكل والسعر، وبسبب إدخال المكننة على صناعة آلة العود في تركيا مثلاً، فإن العديد من هواة عزف العود في العراق اليوم يميلون إلى شراء العود المستورد، فهو بالنسبة لهم أجمل شكلاً من حيث الألوان والخطوط المستقيمة المطبوعة على ظهره، إضافة إلى أنه أصغر حجماً، وأقلّ سعراً.