منتهى حربي /
لا يمكن إنكار أهمية الأعمال الدرامية في تشكيل وعي الجماهير بفعل قدرتها على الدخول إلى بيوتهم بقالب من التشويق المحبب، اذا ما توفرت فيها شروط الجودة الفنية والمحتوى المدهش والتمثيل البارع، برفقة أدوات إخراجية وإنتاجية تلبي الطموح.
لكن معظم الأعمال الدرامية ظلت على مدى أعوام حبيسة الموضوعات النمطية المتعارف عليها من حب وخصام وزواج وخيانة وبحث عن المال والشهرة، لكن في السنوات الأخيرة اقتحم فضاءات الدراما كُتّاب سيناريو ومؤلفون ينحدرون من عوالم الفكر والأدب والنشاط المدني، فأخذوا يبحرون في موضوعات مسكوت عنها، أو يناقشون قضايا حساسة تستبطن جدلاً اجتماعياً ودينياً لم يكن محبذاً عند منتجي الدراما أو رقابة التلفزيون، وحين جاء الربيع العربي بالثورات والشعارات المطالبة بالإصلاح المجتمعي برزت ضرورة القفز على الممنوع الى حرية الافصاح وتجاهل المحظورات بروح من الحذر والتقصي، فبدأت حوارات ومشاهد خجولة هنا وهناك تشير الى أهمية التعايش ونبذ التعصب، وتأكيد التمسك بالهوية الجامعة، في حين ظل المتابع ينتظر أعمالاً تعالج واقعاً مأساوياً تنطوي على مشاهد التطرف وتكفير الاخر المختلف دينياً، وهنا لا بد لنا أن نتوقف عند بعض الأعمال التي عرضت في شهر رمضان هذا العام، ولاقت استحساناً من متابعيها، مثل مسلسل (القاهرة كابول) الذي يروي في إطاره العام مشكلة الحياة المجتمعية والسياسية في مصر، متطرقا لانتشار التطرف بين الشباب، مع جذور التعصب وكيف تنتشر آليات التجنيد لصبية وشباب فقدوا بوصلتهم بسبب البطالة والضياع والواقع الاقتصادي المتدني.
وما يهمنا في هذا المسلسل، اهتمام مؤلف المسلسل (عبد الرحيم كمال) ومخرجه (حسام علي) بشخصية ثانوية ترافق الاحداث بمشاهد بسيطة وهو جرجيس المسيحي عامل المقهى الذي يتوسط (حي السيدة) الذي تدور فيه معظم أحداث المسلسل، فقد اهتم المؤلف برسم شخصية طموح واعية محبة، ومحل ثقة عند أغلب الزبائن في المقهى، وكثيراً ما يشترك بحواراته ليؤكد حبه للوطن وحرصه على ازدهار بلده، ومن الناحية الشخصية فهو عامل يتقن عمله ويواصل نجاحه المعرفي والعلمي ليكون إنموذجاً للشباب الذي يحقق ذاته ولا يرتضي بالظلم أو العداء. وتنتهي حياته بتفجير متطرف لكنيسة القديسين الشهيرة في الاسكندرية، فيضعنا كاتب العمل أمام صورة من المأساة التي تحكم عقول بعض الشباب المحبين له لكنهم يحرّمون الصلاة عليه!!
ثمة حوار معبّر في المقهى يبرهن على انتشار أفكار الجماعات الاسلامية المتطرفة التي تحرم الديانات الأخرى وتكفرها، وتمنع التواصل الإنساني مع معتنقيها، لكن ثمة قدرة فذة ظهرت في النص على صناعة حوارات تحمل محتوى فكرياً رصيناً وتركز على ثقافة احترام الأقليات، إذ يضع الجميع أمام مسؤولية الحفاظ على ثقافة المكونات التي تتعايش معنا في ظل توجهات خفية تضع الحواجز وتبرّر قتل أصحاب الديانات غير المسلمة!.
وتأتي الدراما هنا لتكون عامل تنبيه لخطوة الثقافة المجتمعية السائدة وتحفّز المجتمع على تبني حوار إنساني يتعدى العرف السائد البليد الى رحاب الفهم الموضوعي لحرية الأديان ومشاركة الأقليات همومهم، وتجسير العلاقات مع الآخر المختلف بروح عالية من الحب المتبادل.
جاء مسلسل (الهروب) للمؤلف علاء الفارس، الذي شارك في أداء أحد الادوار المهمة فيه والمخرج (أمجد زنكة) متضمناً مشاهد سريعة لحركة بعض الملثمين وهم يكتبون حرف النون على منازل المسيحيين الذين يسكنون مدينة الموصل الغنية بالتنوع الديني، التي باتت فريسة هذا الجهل المخيم على عقول المتطرفين، لكن المشاهد العراقي ظل على ما يبدو حريصاً على متابعة المسلسل عسى أن يجد ضالته في تصوير مشاهد القسوة والجور على مسيحيي الموصل المنكوبين. إن العمل اقترب الى ضفاف المعالجة الجادة لقضية الأقليات دون أن يتعمّق أكثر، وذلك جعل مسلسل الهروب مقتصراً على الحدث الهامشي، مبتعداً عن المحتوى الفكري والتناول العميق لقضايا الاقليات.
وعلى هذا المنوال تناول المسلسل العراقي (بروانة) الذي تدور أحداثه في المناطق التي خضعت لاحتلال داعش، ويظهر المشهد المكتنز بالقيم الانسانية والتسامح في حوار شيق يضعنا فيه الكاتب (عمران التميمي) والمخرج (علي البحراني) بين الصحفي والفتاة الايزيدية التي تعرضت للسبي والاغتصاب، لتكون هذه الطاولة التي دار عليها النقاش هي العامل الاكبر في تخطي العقبات وبداية حياة جديدة تسهم في التعايش ومحبة الآخر، وربما يضعنا منتجو هذا العمل أمام عصف ذهني يحرّك فينا الأسئلة باتجاه رمزية الطاولة ومعناها الذي يؤكد أن الحلول تكمن في الحوار الانساني وتقبُّل الآخر، معتمداً الصورة الرمزية (التلغيز المفهوم) ليكون أداة جمالية تعطي شكلاً جديداً وعميقاً للدراما العراقية التي تسعى الى منافسة الدراما العربية أو الاقتراب منها في ما يخص مواجهة التطرف وترسيخ قيم السلم الأهلي والتركيز على واقع الأقليات.