آمنة المحمداوي /
فصا عينيك المسحوبتين كحبتي لوز شهيتين، يشبهان شرر بركان فيزوف الذي كلما أمعن سكان نابولي النظر الى عظمة سحبه الانفعالية المجمرة، فقدوا قدرة التنفس أكثر فأكثر.عني شخصياً، أود وضع صورتك في متحف اللوڤر يا صوفيا، أتمون من حسنها الفريد الخام، ادير عدسة الكون باتجاه خد الموناليزا الإيطالية التي لم تتهرب يوماً من عدسات البابارتزي التافهة.
ظلّ حسنك يتمايل بدلع وجهكِ المملوح بالخطايا المذهلة وشام الغوايات التي حيرت عُشاق مجمع بانيون الآلهة وسحرتهم بالأساطير والانهزامات الخرافية وكأنَّ المرءَ إذا حزن استدعى كل أحزانه السابقة بوجهكِ وكأنّ حزناً واحداً لا يكفيه..
وهنا اتساءل: من تُراه الذي تجرأ على شدّ وثاق جمالك المختمر بالغواية وخلّدهُ بالدموع المهدورة، كيف جفّت من الدموع العينان اللتان تشبهان الى حدٍ كبيرٍ حدقات قطط السيامى اللندنية الجريئة! ألكثرة ما بكيتِ ربما في داربين أحياء تورمارنسيا المغمسة بالوحل وحواريها القاسية، ولا تبالين بفقرائها ولقطائها التائهين ولاسيما ساكني الأكواخ الفقيرة المهمشة في نابولي، المدينة البائسة والمذهلة آنذاك؟
أم تراهُ الجوع المُرعب الذي قضم طفولة وصِبا فاتنة نابولي، فظلّ ماضيها مُظلماً يعض على جراح النجمة المحاطة ببلوجكترات الكون بأسره بمجرد نبش طفولتها البائسة، وعذابات البنت اللقيطة التي نشأت بلا أب. صوفيا التي لم تر والدها سوى ثلاث مرات في حياتها، ذهبت مع شقيقتها ماريا الى بوتزوولي للعيش مع جدتهما من أجل العمل الشاق في حانة قذرة للمشروبات نظراً لصعوبة الحصول على لقمة العيش، ولكثرة ما تلاطمت بهما المواجع في الملاجئ أثناء الحرب العالمية الثانية بكل ما فيها من عوز وجوع وحرمان.
قطعاً لا أحد يعلم متى يداهمه الفرح أيتها الصبيّة الطريّة التي وهبت غضاضة صباها في مخبزة كبيرة لصنع الكرواسان والحلويات لمجرد أن تحصل على الفتات مجاناً! ولأن صاحب المخبزة ثري بعمر الستين وتتمايل أمامه صبية جائعة في الثانية عشرة من أنوثتها، فقد كان يُطعمها أفخر الأصناف الإيطالية كما العنزة التي يحتاج جسدها الاكتناز قبيل التهيؤ للذبح الشهواني، ولاسيما أنها لم تكن تمانع او تجرؤ على الارتجاف اذا ما تفحص الماكر بضاعته المؤجلة كلما سنحت الفرصة، الى أن قدم لها سلسالاً ذهبياً لم تكن تتخيله حتى في أحلامها يطوق العنق النحيل المُتعب، فارتمت بين ذراعيه طائعة لوقت طويل ومهدور كالعادة، لم يوقفه إلا ذلك القدر الحتمي الذي يُنزل الموت فجأة فيقطع شريط العمر دون مقدمات.
مُتعبٌ هذا الوجع يا صوفيا حتى وإن لم تدركيه مُبكراً، يدجن الروح الكسيرة بالجلد الأبدي، لذلك أُجزم بأنكِ بعد تلك التجربة الطفولية المريرة بحلاوتها، أدمنت عشق الرجال المسنين، فما إن بلغت الرابعة عشرة من العمر حتى عادت مخالب المقامرة تتلاعب بك وصورت لكِ الخلاص هنا بالمشاركة في مسابقة لملكة جمال نابولي، لكن المفاجأة هذه المرة أيتها الخائبة كانت غير خائبة.
يا إلهي، أخيراً الفتاة النحيلة، صاحبة الوجه الضيق والفم الكبير، التي كانت تُلقّب بـ (عود نبش الأسنان) لفرط نحافتها تمكّنت من النجاة والوقوف أمام كاميرا السينما بدور الكومبارس، مع أن عدسة الفوتوغراف لا تطيق تصويرها، ضربة الحظ غير المتوقعة جاءت من المنتج العالمي كارلو بونتي، الذي لمحها في تلك المسابقة الخائبة فأعجبه شكلها لتكون بطلة أفلامه، ومن ثم اصبحت مع الوقت بطلة قلبه وسيدة البيت.
ها هي سيدة الجمال الخالد، تبهر العالم بجمالها وحيويتها وكأنما روح شفافة تناديها بخدر؛ مثّلي ياصوفيا بكل جسمك إلى أطراف أصابع قدميك ويديك، كما علمكِ سيكا، لأن كل تفصيلة هي بأهمية صوتك وعينيك اللوزتين ووجهك، هل تذكرين الصدفة الكونية التي جمعتكِ بالمخرج العظيم فيتوريو دي سيكا، أو بالأحرى دعيني أسميها الأضواء الكشافة حينما شعّت على حياتك بالمجد فجأة وصنعت في داخلكِ خيالاً أسطورياً وفلسفة جسدٍ فكّ قيوده أخيراً بتوهجٍ جريء ومستفز.
الصدمة أن هذا المجد المحيط بك من جميع الجهات يا دوقة السينما الإيطالية، لم يكن يملك قدرة تخليصك من أبسط غصة بائتة كنت تتجرعينها بصمت مهيب، أشعر أحياناً أنك أكثر خفّة، بل كأنكِ غير موجودة، وإلا كيف يمكن لشذرة إيطاليا التي سُرقت منها مجموعة مجوهرات في مساء لندني صاخب، أن تبكي بحرقة وشراهة طوال الوقت، بكاءً مُراً وفظيعاً، اضطر معه المخرج العالمي فيتوريو دى سيكا، الذي كان يقف بجوارها مذهولاً، للقول:
“وفري دموعك يا صوفيا، كلانا من أبناء نابولي الفقراء خرجنا من تحت الرماد”.
وهنا، تعاود الانفجار في وجهه باكية أكثر:
“أنت لا تفهم شيئاً، كانت تلك المجوهرات والحلي جزءاً من طفولتي المؤثثة بالحرمان.”
يا للألم، يعتصر روح سيكا فيمسك منديله برفق ليمسح الدموع مع كلمته الشهيرة:
“لا تبكِ ابداً على شيءٍ لا يمكنه البكاء عليك..”