عادل مكي/
لا تزال قضية تربُّع الأصوات الفذّة على عروش الفن الغنائي ونحت حرفيتها في أداء المقامات على جدار التاريخ السمعي والذائقة الحيَّة رغماً عن أنف الزمان، هي بنظريّ مقاربات فنيَّة دسمة التجربة عند أهل الاختصاص أكثر من كونها مقارنات عنصرية لفرز الاعلى جودة عن الاقل، وتأتي هنا مثلاً المقارنة بين تجربتي كاظم الساهر وعبد الحليم حافظ اللتين تختلفان من جوانب زمنيّة ذوقية وأخرى لها علاقة بخصوصية الساحة الغنائية التي ظهر فيها كلا الرجلين ويكاد الشبه بينما يبدو مستحيلاً،
الفارق الزمني بينهما كبير وكذلك اختلاف الأذواق السمعية بين فترة ظهور عبد الحليم وبين فترة ظهور الساهر اختلفت كثيرا نظرا للتطور الذي حصل بعد وفاة العندليب، علماً أنهما يتشابهان في أشياء ويختلفان في أشياء أخرى وهنا لابد لي أن أورد بعضا منها ليس من باب المقارنة ولكن من باب الإنصاف الفني لما قدّمه الرجلان، في البداية ظهر عبد الحليم حافظ وكانت الساحة الغنائية تعجّ باباطرة الغناء والشعر والتلحين والسلطنة بينما ظهر الساهر في فترة غياب تلك الرموز الفنية الكبيرة باستثناء الشاعر نزار قباني الذي كتب وأعطى للساهر آخر ما تبقى من قصائده الشعرية وهو في أواخر أيامه، أما عبد الحليم حافظ فكان محاطاً بجهابذة التلحين الذين تعكز عليهم وعُدَّ ابنهم المدلل كمحمد عبد الوهاب والموجي وكمال الطويل وبليغ حمدي بينما ظهر كاظم الساهر معتمدا على نفسه وألحانه الشخصية وعلى شاعر او شاعرين، وأيضاً لقد كان لعبد الحليم حافظ رمزية خاصة ومكانة عند السلطة السياسية فكان مطرب السلطة بلا منازع ولأن ثورة عبد الناصر كانت تبحث عن ممثل لها استغل عبد الحليم ذلك الأمر وصار مثالا لتيار حديث وثوري ورومانسي وأصبح نجم مصر الأول، أما الساهر الذي ظهر في فترة التسعينيات ولمع نجمه وأفادته السلطة الدكتاتورية متمثلة بعدي صدام حسين فقدم الساهر أناشيد وأغاني تتغنّى بالسلطة ورئيسها وبإشراف ذلك الفتى الارعن والشبق الذي تتغيّر حالاته النفسية بين ليلة وضحاها، فقرّب اليه الساهر كي يثبت أنّه راع للإبداع ومن جهة أخرى يحاول إذلاله هو وباقي المطربين الذين ظهروا في تلفزيون الشباب الذي كان يديره آنذاك، متّصورا أنّه أسهم بنجوميتهم وبأسلوب بربري همجي تعمّد إذلاله وباقي المطربين، الأمر الذي جعل الساهر يفرّ من العراق في أول فرصة سنحت له.
بالمقابل استغل عبد الحليم بذكاء وإثارة العاطفة الباكية لدى المستمع العربي فجعل من البكاء متمركزا في ذاته، لأن تلك البكائيات المازوخية متجذّرة في الغناء العربي لذلك طوّعها غنائياً ونجح في ذلك، أما الساهر فخرج بأول أغنية ناجحة له وكانت أغنية راقصة خفيفة (الحية) وأردفها باغنية عبرت الشط، محاولا نشر فسحة من الفرح في قلوب العراقيين لا سيما أنّه يعيش أقسى فترات الحروب والمعاناة ورغم أن الأغنيتين لاقتا رواجا جماهيرا كبيرا الا أنّهما عدّتا لدى الكثيرين أغاني فجة، لم ينجح عبد الحليم حافظ في جوانب التكنيك الغنائي العربي فهو لم يكن بارعا في الغناء السائد كما إنّه لا يتناسب مع مساحته الصوتية، فلديه قصور في أداء بعض المقامات الشرقية على خلاف غنائه للمقامات الخالية من ثلاثة أرباع الصوت – التون – فصار عليه أن يعوّض هذا القصور بالإفراط العاطفي المحمَّل بالشجن، بينما كان كاظم الساهر يتمتّع بمساحة صوتية واسعة (طبقتين صوتيتين ونصف الطبقة) بالاضافة الى تميّزها بالقوة والحدية والتفجر، سواء كان يغني على طبقة القرار او على طبقة الجواب وبتعبير أدق على طبقات (الباص التينور الالتو / السبرانو) مقتربا من الغناء الاوبرالي الصعب، أما عبد الحليم فكان يغنّي على درجات السلم الموسيقي غناء صحيحا بدقة أداء معتدل وفي قدرة متحكّمة بالنغمات الموسيقية، فهو لم يكن صوتا زاعقا بل كان صوتا هامسا وخافتا وعليه يعدّ الفارس الذي ابتدع الغناء المهموس تحت ستار من الحياء والخجل والبراءة، لذلك عُدَّ ظاهرة فنية جديدة على الغناء العربي وزاحم وهدّد عروش الاباطرة مثل أم كلثوم وعبد الوهاب وفريد الاطرش بتيار شبابي جديد ومجدّد للموسيقى العربية، أما كاظم الساهر الذي عجنته التجربة القاسية للحروب والمعاناة فظهر وكانت هناك أصوات عراقية مزلزلة من الصعب اقتحامها وقهرها كصوت رياض أحمد وياس خضر وحسين نعمة وفاضل عواد ورضا الخياط، غير أن الساهر تفوق عليهم اكاديمياً فقط كونه يكتب ويلحّن ويغني، فهو الدارس العارف بفنون الموسيقى بعد دراسة دامت سبع سنوات تلميذا عند أستاذة الموسيقى (سلوى شاميليان) كذلك دراسته المقام وفنونه وتعلم قراءة القرآن الكريم بترتيله وتجويده على يد الشيخ جلال الحنفي، الأمر الذي جعل منه يقف في الصف الاول بثبات واقتدار فحقق نجومية حلم بها العربي قبل العراقي، لأنَّ تجربته كانت غنية وحديثة في الساحة الغنائية، لا سيما بعد غنائه لأصعب القصائد الشعرية بمهارة واتقان عجيب، أما عبد الحليم حافظ فتشعر أن في صوته معاناة شعبية أصيلة لا شك أنَّه عاشها واكتوى بنارها، فلذلك مهما جاءت خامات او أصوات مشابهة لصوته او أقوى منه وحتى لو غنت بنفس طريقته وأسلوبه فإنَّها لايمكن أن تقارن به وسيظل هناك شيء مفقود ومهم الا وهو الإحساس المفرط الذي يملكه عبد الحليم حافظ، هذا وقد امتاز الساهر وعبد الحليم بالذكاء الفني والعمل على جذب مسامع الذائقة السمعية لأماكن لم تكن مألوفة من ذي قبل، فهما جاءا بلون وستايل شبابي محدّث وجديد من خلال بساطة طريقة الوقوف على المسرح وعدم التكلف او من خلال قصات الشعر والازياء التي يرتدونها رغم أثمانها الباهظة بطريقة تحسّ وكأنّها تقترب من الناس عكس كبار المطربين أمثال أم كلثوم وعبد الوهاب، فهم تحيطهم هالة من الوقار كالطود الذي يصعب اختراقه.
إذن يمكن القول: لقد نجح الاثنان في تسويق نفسيهما كحالة جديدة ومؤثرة في الوطن العربي بالعطاء الزاخر الذي جذب الملايين اليه من خلال ذلك النتاج الثر وتلك التحف الفنية التي ستبقى شاخصة أبد الدهر، فعبد الحليم حافظ وكاظم الساهر أيقونتان عربيتان يحق للعرب جميعا التفاخر والاحتفاء بهما كلما عزفت الأوتار ودقت مزامير الإبداع المنفرد.