محسن ابراهيم /
لعل البائسين خير من كان التفاؤل يملأ نفوسهم، ويفسح أمامهم سبل التطلع الى مستقبل أفضل. ومن أولئك الشاعر والموسيقار عثمان الموصلي الذي ابتلي في صباه باليتم والفقر والعمى فلقي ألواناً من الشقاء، لكنه ظل متفائلاً مرحاً حاضر البديهة والنكتة، فأحبه الناس، ووجد من إعجابهم بشخصيته وإبداعه الموسيقي ماجعل السعادة تواري معاناته، ليصبح فيما بعد اسماً لامعاً في تاريخ الموسيقى العربية، وليؤسس ثقافة موسيقية معرفية نهل منها أغلب الموسيقيين في بغداد ومصر وتركيا وبيروت.
نشأته
ولد عثمان الموصلي عام 1854م، وكان والده الحاج عبد الله سقاءً توارث المهنة عن أجداده، توفي والده وهو في السابعة من عمره، وما لبث أن فقد بصره متأثراً بمرض الجدري الذي أصيب به ليضمه جاره محمود بن سليمان العمري إلى أولاده في موضع عناية، وعيّن لهُ معلماً حفّظه القرآن. وقد أعجب محمود أفندي بصوت عثمان فخصص له معلماً يعلمه الموسيقى والألحان، فنبغ فيها وحفظ الأشعار والقصائد، وشرع عثمان في تعلم علوم اللغة العربية على أيدي علماء عصره كالشيخ عمر الأربيلي وصالح الخطيب وعبد الله فيضي وغيرهم. وكان مولده في محلة باب العراق بالموصل. وكان يجيد اللغتين الفارسية والتركية. وعندما توفي محمود أفندي العمري عام 1865 ترك عثمان مدينة الموصل واتجه إلى بغداد، وكان في العقد الثالث من عمره، حيث تلقاه بالتكريم أحمد عزة باشا العمري ابن محمود أفندي، وأسكنه عنده واشتهر هناك بقراءة المولد فحفّ به الناس، وذهب إلى الحج ثم عاد إلى الموصل عام 1886، وتابع الدراسة فيها على يد الشيخ محمد بن جرجيس الموصلي الشهير بالنوري، وأخذ عنه الطريقة القادرية، وهي إحدى الطرق الصوفية الشهيرة
في الموصل.
سافر إلى إسطنبول حيث تلقاه أحمد عزة باشا العمري، وعرّفه على مشاهير الناس وعلمائهم وأخذ عن الشيخ مخفي أفندي القراءات العشر والتكبيرات وأجازه فيها، ورأى الملا عثمان أن يوسع معارفه فسافر إلى مصر وأخذ عن الشيخ يوسف عجور إمام الشافعية القراءات العشر للقرآن والتهليل والتحميد وأجازه فيها. وأصدر وهو في مصر مجلة سماها ((المعارف)), درس على يد الملا في القاهرة كل من عبده الحامولي ومحمد كامل الخلعي، فعبرت من خلاله مقامات لم تكن معروفة في مصر، كالنهاوند والحجاز كار. وتشير دراسات عديدة إلى الفرق النوعي الذي حصل في نتاج سيّد درويش بعد لقائه بالموصلي.
تراث ثر
إن ما أنتجه الموصلي من موشحات وأغانٍ لايمكن حصرها نذكر منها: (زوروني بالسنة مرة) (طلعت يا محلى نورها) (أسمر أبو شامة) الذي أخذ من موشح لعثمان الموصلي بعنوان (أحمد أتانا بحسنه سبانا) (فوق النخل فوق) الذي أخذ من موشح لعثمان الموصلي بعنوان (فوق العرش فوق)(ربيتك زغيرون حسن) الذي أخذ من موشح لعثمان الموصلي بعنوان (يا صفوة الرحمن سكن) (لغة العرب اذكرينا) التي غناها المطرب العراقي الشهير المرحوم يوسف عمر واقتبسها فنانون لبنانيون وهنود تحت عناوين مختلفة, (يا ناس دلوني) الذي أخذ من قبل محمد العاشق من موشح لعثمان الموصلي بعنوان (صلوا على خير مضر), (يا أم العيون السود) (يا من لعبت)، (قوموا صلوا) غناها ناظم الغزالي.
الظلم مرتين
مازال تراث الموصلي والى هذه اللحظة ينسب الى غيره ومازالت موشحاته تبث عبر الأثير والفضائيات ويدعى أنها من مؤلفات الموسيقي المصري سيد درويش، حتى أن تلك الموشحات عدت من روائع التراث المصري وعد سيد درويش من عباقرة الموسيقى.
المشكلة تكمن أن الكثير من المؤرخين يعلمون علم اليقين أن سيد درويش قد اقتبس من أستاذه عثمان الموصلي الموشح الصوفي (زر قبر الحبيب) لتصبح في ما بعد (زوروني كل سنة مرة), لم يكن هذا الموشح الوحيد الذي لم يحمل توقيع عثمان الموصلي وفي ذلك إجحاف وظلم كبيرين لهذا الموسيقار. الملا عثمان الموصلي ظلم مرة أخرى من قبل خفافيش الظلام حين هدموا بمعول التخلف تمثاله الشهير في مدينة الموصل، لم يوقنوا ان الموصلي تراث حي عاش وسيعيش في كل حرف من حروف الموسيقى العربية.