مناضل داود/
أوصى أن يُغتسل جثمانه ويصلى عليه في مرقد الإمام الكاظم وأن يُدفن في مقبرة الإمام أبي حنيفة، وهو يُخفي ابتسامته الأخيرة التي أذهلت العائلة وأوقعتها في حيرة التساؤل، ولكن سرعان مانُفذت الوصية، فغص مجلس الفاتحة بالِملل والمذاهب، كيف لا والراحل وجه حفر ملامحه في ذاكرة العراقيين لما يقرب من نصف قرن من الزمن؟
مسرح الفن الحديث
عمل الراحل فاضل خليل في أهم فرقة مسرحية عراقية هي “فرقة مسرح الفن الحديث” ومع كبار الفنانين الذين قدموا عروضاً لامست وجع الناس وهمومها وتطلعاتها، فكان فاضل خليل نجماً من نجوم هذا المسرح الطليعي الذي ضم أساتذة المسرح العراقي ورواده: (يوسف العاني وخليل شوقي وابراهيم جلال وقاسم محمد وسامي عبد الحميد وزينب وناهدة الرماح ومقداد عبد الرضا وجواد الأسدي ومي شوقي وعبد الجبار عباس وآزادوهي صومائيل).
ثم عمل الراحل أستاذاً في أكاديمية الفنون الجميلة لأكثر من أربعين سنة وتخرج على يديه مئات الطلاب الذين أراهم اليوم يملأون المكان وفاءً ومحبة للمعلم الذي اشتهر بطيبة قلبه وبابتسامته التي لاتفارقه وهو يشرح الدرس أو ينتقد أحد طلابه أومحبيه من الرياضيين، فقد كان الفنان الكبير محباً لهذه اللعبة الشعبية فصار رئيساً لرابطة مشجعي نادي الزوراء الرياضي.
أنا فاضل خليل
قرأنا سورة الفاتحة على روحه كلنا، الكرخ والرصافة الأهل والأقرباء، الفنانون والأدباء والرياضيون، فرأيته يبتسم لبغداد الحاضرة في هذا العزاء من إحدى زوايا المسجد وهو يلوحُ لي أنا فاضل خليل، أنا حسين ابن الخبازة.. (الشخصية الشهيرة التي جسّدها في مسرحية النخلة والجيران)، أنا المعلم الذي أحبكم جميعاً. أحسست لحظتها أن الجميع سمع صدى صوته فلملموا دموعهم قبل أن تسقط على الأرض. أشعلت سيجارتي وأنا أحاول تذكر السيرة الطويلة للمعلم فشاهدت النخلة حزينة بدون جيرانها، زينب ويوسف العاني وناهدة الرماح وقد سبقهم صاحب (النخلة والجيران) الروائي الكبير غائب طعمة فرمان، في شتاءات موسكو غريباً وحيداً بلا نخلة ولاجيران، كأن القدر رسم نهايات العراقيين من دون أن يقرروها وأن يموتوا غرباء أيام حكم الدكتاتور البغيض. بعد فرمان رحل شيطان المسرح العراقي المعلم الفليسوف قاسم محمد لتبقى النخلة وحيدة وناحلة وحزينة تشبه بغداد، بغداد التي غدت مدرسة بلا معلمين طيبين وأدلاء محترفين عارفين، وعشاق يثرثرون بهجة علمهم لأبنائهم وهم يحلمون بوطن يتبغدد في بحبوحة السكينة.
غادرنا وهو يبتسم
المعلمون الذين كانوا نافورة من بهاء يجلسون قرب النخلة العجوز وهم يحدثوننا عن الأمل ويرسمون الغد بالجمال والعلم.. هكذا كان الراحل فاضل خليل من جيل لاينتمي إلا للعراق فقط. يحب النخلة والجيران، غادرنا وهو يبتسم وفي قلبه دمعة حارة على هذه النخلة التي بقيت وحيدة بلا جيرانها فهي تشبه روحه وسنواته الأخيرة التي عانى خلالها الإهمال ككل الفنانين الرواد وهم يقضون ماتبقى من أيامهم في بلد لاتريد أن ترحل عنه الحروب، يتأمل جذع النخلة العجوز وكأنه يعرف أن الشاعر البغدادي وليد جمعة يرتل على مسامعنا الآن جميعاً:
في الغروب النحيف …. تصفن النخلة العجوز على السطح ساهمةً لاتريم … فكيف نداعبها؟ كيف نرد السرور اليها.