سنان باسم /
الاعتماد الدائم للسينما على الإيجاز والترميز، وبدون إغفال انصهار الفرد بالجماعة، أعطاها دافعاً نحو تعضيد متماسك لعكس قضية اجتماعية أو وطنية، وربما مكوناتية أحياناً، وعكسها على شكل شريط سينمائي منذ تكوين الفن السابع وحتى اليوم. والنتاج والمحصلة هما خلق الشعور والتحشيد، والأكثر هو سيل التعبئة الذي تناله الاستدامة لمنبعه الحر، أو الصادق.
“فرحة”.. عنوان لم يوازِ أحداث الفلم، الذي تغلب عليه المآسي والقتل والترويع على اسم الفلم الأردني – الفلسطيني الذي بث على شبكة “نتفلكس”، الذي عرّى ما قامت به المليشيات الصهيونية بكل ما عرف عن ماضيها السيئ ذي القرف الإنساني وحاضرها الذي لا يختلف عن ماضيها وإن شكلت دولة.
فلم نال من الرضا مالا يمكن تجاوزه، باعتباره نتاجاً فلسطينياً يجابه نتاجات صهيونية تمتد على مدار خمسين سنة من الروايات المليئة بالتبشيع والتدليس والافتراء والتحريف، زائداً مع كل سيطرتها على هوليوود ووسائل إعلامها. فلم “فرحة” الذي أثار مناوئيه يستمد قصته من حقائق واقعية لفتاة فلسطينية تحت أسوار المراهقة المحكومة بحتمية الزواج في ظل مجتمع قروي بالغ التحفظ، برغم فسحة التعليم على يد كتاتيب ينحسر تعليمهم للفتيات على بضع آيات قرآنية يرتلنها بسردية الملا أو الشيخ. الفتاة فرحة تسرد لنا قصتها في العام 1948، عام النكبة الذي ما إن يقرأ حتى تسترجع في شريط ذاكرتك أفلام الأبيض والأسود وعصابات الهاغانا وشتيرن وأخواتها غير الشرعيات بكل ماعرف عنها من أعمال يندى لها جبين الإنسانية إن بقي فيه قطرة حياء. فرحة.. التي تعيش في إحدى القرى الفلسطينية، لها حلم يراودها بشدة وتفصيله هو الانتقال إلى المدينة والتعلم في مدرسة للبنات، هرباً من شبح التزويج القسري السائد في مختلف القرى العربية، لكنها تستحصل موافقة الأب المختار في إكمال دراستها والتوجه نحو حلم وردي يغازل مخيلتها ويترجم في أرض الواقع لتكون معلمة في المستقبل، تدير مدرسة للبنات في قرية حرمت غالبية فتياتها من حق التعليم، لكن السعادة الغامرة كتب لها يوم واحد فقط، لتبدأ الأحداث الدموية في العام 1948 ولتسجل النكبة بأحرفها الدموية تأريخاً بشعاً على يد العصابات.
تبدأ المأساة بمحاولة تهريب الأب لابنته بواسطة زوج أخته الذي جاء زائراً إلى القرية بسيارته “الأوتوموبيل”، لكنها ترفض بعد إجبارها قسراً على الركوب، لتعود مرة أخرى نحو حضن والدها دون تركه يواجه الموت المحتم، ليضطر والدها إلى إخفائها في غرفة تخزين المواد الغذائية، وليغلق عليها الباب ويخفي معالم باب الغرفة بالبناء المؤقت، كي لا تتعرف العصابات الصهيونية على المكان ومن ثم قتلها أو أسرها، أو حتى اغتصابها (وهي تفاصيل اعترف بها من تبقى من أفراد تلك العصابات ومليشياتها في فلم وثائقي بث من على فضائيات عالمية معروفة، فهم لم يتورعوا عن ذكر ما قاموا به من قتل وتشريد واغتصاب لكل ما يتعلق بفلسطينيي النكبة)، ولتبدأ مأساتها وهي الوحيدة التي يملؤها الخوف في حجرتها الوحيدة التي تضطرها للبحث عن الأمان في العزلة القسرية.
هنا برعت المخرجة “دارين سلام” بالمزج بين الخوف والتأمل لما سيجري في مخيلة فرحة وعينها تترجم الانفعال والترقب، بالإضافة إلى البحث عن موجودات المكان بعد برهة الاطمئنان لإطفاء عطشها وجوعها، لكن الأمر لم يدم، حين تدخل عائلة مكونة من أب وأم حامل وابنتين هرباً من جحيم الملاحقة والقتل، لتشهد فرحة عملية الولادة الطبيعية التي يقوم بها الأب ومراقبتها لكل التفاصيل عبر كوة تركها والدها في غفلة، فكانت الشاهد والمتنفس لرئتيها وعينيها، إذ تلد المرأة ولداً. ويبدو أن المؤلف له من التأويل والقصدية الكثير والكثير في اعتبار الطفل هو بارقة الأمل، وأن بكاءه صرخة بوجه الظلم، لتأتي بعد ذلك أصوات العصابات الصهيونية لتقبض على الأب والعائلة بأكملها وتقتلهم، وحتى الرضيع لم يسلم من الأمر، فقد ترك حياً ليلقى مصيره بالموت جوعاً وعطشاً.
فلم “فرحة” شكّل انعطافة وصحوة فنية وسينمائية واقعية تعيد إحياء التراث الفلسطيني في رواية تحمل جرأة في تعرية المغتصبين، ليجري عرضه على شبكة “نتفلكس”، وهي الخطوة التي أغضبت المتحكمين في صناعة الإعلام والأفلام، المرتبطين بأعداء فرحة، الذين عمدوا إلى شن حملة شعواء من أجل تقليل تقييم الفلم من 7.2 حتى الوصول إلى 5.8 لتتضح معالم الخوف في أعين (من يكاد يقول خذوني).
ولم يكن هذا هو الاستهداف الوحيد، بل جاوره في السير استهداف آخر من خلال حملات المقاطعة من كارتل الإعلام والأفلام المتبنية للتاريخ المزور الخائب، ولتأتي الردود العفوية والشعبية العربية الصادمة لدعم فرحة، بعدما اعتقد البعض أن (فرحتنا) قد ضاعت، حيث رفعت أعلام فلسطين في مونديال قطر ٢٠٢٢، في معظم مباريات المونديال، وبتأييد عربي وأجنبي مناصر ومعتقد بمظلومية شعب فلسطين الذي سرقت أرضه وهُجر شعبه عبر موضوعات دينية مفبركة كتبت بعد قرون من رجوعهم من بابل، في إشارة واضحة إلى عودة العرب نحو قضية اعتقد البعض أنها دخلت السبات لعقود، لكنها عادت بقوة المنتصر في شهر كروي واحد، فقد وصلت إلى اذهان العالم والضمير العالمي الذي أثبت أنه حي..
فهل سنشهد رفع ذات الأعلام في خليجي ٢٥..
مجرد سؤال.