موفق مكي /
حين صدر العدد الاول من “مجلتي” للأطفال لم تكن في المكتبات غير المجلات العربية التي تهتم بذلك الاتجاه في المنشورات مثل (السندباد وسمير وبساط الريح)، فكان صدور “مجلتي” بتلك الصورة الشيقة برسومها الخلاقة وقصصها وسيناريوهاتها الجميلة, مفاجئاً للجميع، أطفالاً ومتابعين لمثل تلك الإصدارات وتخصصها.
وأكثر ما أثار دهشة الأطفال والمتابعين لمجلة “مجلتي”, هو ظهورها برسوم فنانين عراقيين لأول مرة, لم يعرف قبل ذلك من مارس تلك الرسوم التخصصية الدقيقة بطريقة الكومكس, أي الرسوم المتتابعة ضمن سيناريو متكامل, يتحدث عن قصة ما, تاريخية او خيالية.
وقد كان الاختيار الأول لفنان عرف بريادته لرسوم المجلات التوضيحية, وهوالفنان طالب مكي، الذي خاض لسنوات تجربة الرسوم المصاحبة للنصوص القصصية والشعرية في مجلة كانت تصدر عن وزارة النفط في ستينات القرن العشرين, وهي مجلة “العاملون في النفط”, تلك المجلة التي خرجت عن تخصصها في متابعة أخبار الصناعة النفطية, لتتحول عل يد الأديب الناقد جبرا ابراهيم جبرا الى مجلة فنية أدبية منوعة من الطراز الأول، جذبت الكثير من الكتّاب والشعراء الى صفحاتها الأنيقة التصاميم المزينة بخطوط وحروف حديثة, لم يألفها القارئ العراقي.
وقد كلف الأديب جبرا, الفنان طالب مكي بتنفيذ رسوم توضيحية وتخطيطات بالحبر الصيني لتكتمل الصورة البهيجة لصفحات المجلة المذكورة.
يقول جبرا عن تجربته مع الفنان طالب مكي تلك:
“حين كلفت طالباً برسوم لبعض النصوص القصصية والشعرية كنت أعرف مقدرته على إبراز محتويات تلك النصوص الحديثة, ولكني لم أكن أتوقع منه أن يبدع بتلك الطريقة الفذة ويلمّ بكل المعاني داخل النص في رسم صغير لم يأخذ من الصفحة غير جزء يسير منها.”
نجحت التجربة، وكانت رسوم طالب مكي الجديدة على الوسط الفني. ومن تلك التجربة, كان تكليف طالب مكي بالبداية الجديدة لرسوم الأطفال عبر سيناريوهاته المرسومة وأغلفته لمجلة “مجلتي” الجديدة.
مع كتّاب كبار
وابتدأ ذلك الاتجاه الجديد مع كتّاب كبار, فقد وضع الشاعر فاضل العزاوي سيناريو آلة الزمن,
وهي رؤية جديدة لرواية بنفس الاسم للكاتب العالمي هربرت ويلز, وأبدع الفنان طالب مكي في رسم تلك العوالم الخيالية الفائقة الغرابة, وقد امتازت رسوم مكي بالإتقان والجمالية والدقة, إضافة الى الخيال الواسع, الذي يحتاجه الطفل في بداية تكوين وعيه.
ورسم طالب سيناريو آخر, كان البداية الحقيقية لرسوم الكومكس العراقي, وهو سيناريو كلكامش، تلك الشخصية الأسطورية التي مجّدت الملحمة السومرية ووصفت أعماله ورحلاته مع رفيقه انكيدو. ركز السيناريو على رحلات كلكامش ومغامراته مع صديقه المقرب أنكيدو وصراعهما في الغابات البعيدة، وقتلهما للوحش خمبابا. ويستمر السيناريو في تناقلات الشخصية الأسطورية برسوم طالب مكي الذي أبدع في توضيح وإبراز مدينة أوروك وأبنيتها وعربات جنودها وملابس سكانها, وصورتي كلكامش وأنكيدو وملابسهما وأسلحتهما, كل ذلك في جو خيالي لم يألفه الطفل العراقي, ولا المتابع لمثل تلك القصص المرسومة. كانت رسوم سيناريو كلكامش مصدر إيحاء فني لجيل كامل من الرسامين, وقد أحدث انتباهة واسعة لدى الكثير من القرّاء لما لتلك الرسوم من مقدرة خيالية فائقة, ودقّة في رسم كل ما يتصل بتلك الفترة من تاريخ وادي الرافدين البعيدة الغور في الماضي.
تركت تلك الرسوم بصمة واضحة, كانت بمثابة خط الانطلاق لتلك المجلة الفنية, وجعلتها في مقدمة مجلات الاطفال, بعد عام من صدور عددها الأول.
أصبحت “مجلتي”، والعمل على صفحاتها، أمنية الكثير من الرسامين, فقد توجه اليها الفنان بسام فرج الذي كان يمارس فن الكاريكاتير قبل ذلك في مجلة “ألف باء”, ثم الرسام صلاح جياد وعصام الجلبي، ولاحقاً فيصل لعيبي، وقد تخرجوا تواً من مدرسة الكبير فائق حسن, وهنا حدث لهم، ولإنتاجهم الفني, المنعطف الحاد الذي أثر على طريقة عملهم, فقد كانت لرسوم الأطفال خصوصية وحساسية في التعبير الفني وطريقة إبراز الألوان, تختلف تماماً عما تعلموه وأتقنو دروسه في أكاديمية الفنون على يد الأستاذ الكبير, فاختط كل رسام لنفسه أسلوباً خاصاً عرف به, بعد تجربة فريدة في “مجلتي”، ووجدوا عالماً من الخيال يديره رئيس الرسامين حينذاك طالب مكي, مكّنهم من الوصول بسرعة الى مصاف الرسامين العالميين المهتمين برسوم الاطفال.
ومع الوقت, ازداد إقبال الرسامين، من أجيال متتابعة، على ذلك المطبوع الذي ينمو ويتطور بسرعة كبيرة, ويصبح محط إعجاب الجميع .
مواهب جديدة
برز جيلٌ آخر من الرسامين وازدادت صفحات المجلة وتنوعت عناوينها ومواضيعها مع تنوع الأساليب التي تطورت أثناء انخراط أصحابها بتلك التجربة الشيقة، وسرعان ما تفاعلوا مع الجو الفني والإنساني الذي نسجه من سبقهم من الانسجام الجميل وجو الألفة التي كانت تميز العلاقات بين الجميع, ما ساعد في إنجاح مشروعهم الذي أحبوه, ودفع بعملهم الخلاق, لوصول “مجلتي” الى المقدمة في عالم ثقافة الاطفال.
توسع عمل تلك الخلية النشطة, وصدرت “المزمار”، وهي مجلة تتوجه الى اليافعين وطبعت على ورق الجرائد بحجم كبير, وجدت روايات عالمية طريقها الى تلك الصفحات فكانت رواية “الشيخ والبحر” برسوم الفنان وليد شيت, وروايات أخرى برسوم الفنان أديب مكي بالحبر الصيني وبطريقة عرض جديدة, تشبه عرض الفلم السينمائي, ورفد الجيل الجديد من الرسامين من هذا المطبوع, وأنضجت تجاربهم الجديدة انطلاقة نحو اليافعين, برز عبد الرحيم ياسر ومؤيد نعمة ولاحقاً منصور البكري وعلي المندلاوي وحسام عبد المحسن ورسامون آخرون في سماء ثقافة الأطفال, ليصبح فن الكومكس، الرسم المتتابع, أحد أهم النتاجات الثقافية الفنية التي أنجزتها إبداعات الفنان العراقي، وراحت “مجلتي” و”المزمار” تحصدان مع رساميها الجوائز العربية وتصدّرتا ذلك اللون النادر عربياً من ثقافة الأطفال.