فيلم كاميه كلودي.. الحب عندما يتحول الى مأساة

حسن جوان /

يحدث أن تتلاقى قصة الفن في سيرة إنسان ما بقصة حياته، هذا اللقاء قد يكتب تاريخاً محظوظاً لبعض المشاهير أو صفحات مأساوية ممزقة لبعضهم الآخر، وهذا ما حدث مع الفنانة الفرنسية الفذة (كاميه كلوديل)، التي تحولت معاول النحت من يديها الصلبة والرقيقة معاً، ومن ضرب الحجر الأصمّ، إلى ضرب القلب العاشق المحترق حد اليأس والجنون. فقد شاءت أقدار كاميه أن تقع في حب النحات الأشهر في فرنسا (أوغست رودان)، فكانت القصة كما أخرجتها السينما في فيلم يعدّ أحد أروع أفلام إيزابيل أدجاني -حسناء السينما الفرنسية- قبل عقود.
القصة الحقيقية
وقعت حوادث القصة في باريس أواخر القرن التاسع عشر، عندما تفتقت لدى الشابة الصغيرة (كاميه) موهبة في النحت والرسم والتصميم الزخرفي لا يمكن تجاوزها، رغم اعتراض الأم بشدة على ميول ابنتها وحياد أخيها الشاعر المعروف (بول كلوديل)، لكن الدعم الكبير أتى من نافذة والدها الذي لم يدخر وسعاً في دفعها لاحتراف الفن، فوجدت فرصة للعمل في محترف يشرف عليه أوغست رودان، أحد أكثر فناني عصره تمرداً وشهرة ومهارة. لاحظ الأخير براعة تلميذته وفرادتها وتفانيها في العمل والتجريب، فكان أن تقارب الاثنان تقارباً شديداً جمعهما النحت والتمرد ثم الحب الجامح رغم فارق العمر الذي يمتد إلى نحو 24 عاماً. لكن العاشقين لم يتوقفا عند حدود ذلك الفارق الزمني البالغ، ودامت علاقتهما سنوات طوالاً أنتجا خلالها أفضل ما لديهما، وتفاعلا متأثرين ببعضهما في الحياة والحب والأعمال الفنية، حتى أن التأثير المتبادل بين التلميذة والأستاذ بدا واضحاً في جانب من أعمالهما معاً.
لكن الجانب غير المشرق من الحكاية لم يكن في الفارق الزمني بين العاشقين، بل في ارتباط رودان بزوجة سبقت كاميه إلى حياته ورفضه التام التخلي عنها، ولاسيما بعد إنجابها منه. حجر العثرة هذا سبّب متاعب جمّة مع مرور الوقت، وبدا أنها عقدة غير قابلة للحل، بل صارت مصدراً للجنون والتدمير وسط عنف كاميه وصراخها، فقد ارتكبت فظائع كثيرة وفضائح وتوقفت عن عملها، بل بدأت بتحطيم أعمال نحتية عظيمة أنفقت سنوات في نحتها، ولم ينجُ منها إلا بعض النماذج القليلة. ما دفع عائلتها إلى إيداعها مصحة عقلية بعد شهادة الشهود بضمنهم رودان نفسه بحدوث خلل عقلي لديها، قضت فيها قرابة أربعين عاماً متواصلة لم يزرها أحد فيها مطلقاً سوى زيارتين لأخيها الشاعر الكاثوليكي الملتزم الذائع الصيت بول كلوديل، الذي أصبح سفيراً لبلاده بعد ذلك بزمن، ثم انقطع بعدها حتى نهايتها المأساوية.
فيلم كاميه كلوديل
اضطلعت الحسناء الفرنسية- من أصول جزائرية- إيزابيل أدجاني بإنتاج فيلم كاميه كلوديل وبرعت في بطولته على نحو مؤثر، وشاركها البطولة بدور رودان الفنان الفرنسي جيرارد ديبارديو، وعرض الفيلم أول مرة في عام 1988. ونال الفيلم وبطلته جائزة سيزار في العام التالي. أخرج هذا العمل السينمائي (برونو نويتن) وصنف الفيلم على أنه سيرة ذاتية أو دراما تاريخية. وعلى الرغم من وجود نسخة سينمائية ثانية لحياة كاميه كلوديل أنتجت في عام 2015 وبطلتها المشهورة (جوليت بينوش) إلى جانب (جان لوك فينسنت)، إلا أن نسخة الفيلم القديمة تبدو أبلغ تأثيراً من لاحقتها التي ركزت في مقاربتها على الحياة النفسية للنحاتة الفرنسية، بينما كانت نسخة عام 1988 أكثر بانورامية وروحانية في عرض القصة، ناهيك عن ثقل الأداء والأزياء والإضاءة المعتقة لزمن حدوث القصة الحقيقية التي دارت نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. لكن هذا لا ينفي الأداء التعبيري المذهل لممثلة مثل بينوش، المعروفة بقوة التعبير في إخراج وإيصال أدق المشاعر الإنسانية، ناهيك عن دورها هنا في التعبير عن الانفعالات النفسية والعصبية المكبوتة التي كانت سمة بارزة لدى كاميه المغرمة والمحطمة في وقت واحد معاً.
نهاية مجنونة
لا أحد يروي المأساة مثل نظرة صاحبتها وهي تجلس أواخر أيامها وحيدة محجورة في مصحة للأمراض العقلية أربعين عاماً، رغم تماثلها للشفاء من الحب والجنون قبل أكثر من عقدين، بعد أن رفضت عائلتها التوقيع على مغادرتها المصحة. هي تجلس ممحوة الوجود واليد واللسان. فقد مات الحب والحبيب وتصلبت تلك اليد الملهمة. لكن القصة عاشت وستبقى، وكذلك ترك توثيق القصة سينمائياً أثراً وأداءً مبهرين حتى الآن.