صباح علال زاير /
يكبرني بعشرين عاماً تقريباً، ولكن حين جمعتني معه مهنة الصحافة كنت أشعر أننا بعمر واحد. أتذكره في شتاء 1999حين التقط مني آنذاك مادة للنشر بصفته رئيساً للتحرير، قرّبها أكثر نحو نظارته الواسعة، ثم قرأها بتمعّن قبل أن يلقي بها في جيبه وهي تزاحم عشرات القصاصات الورقية وعلبة السكائر والقدّاحة، وبضع أوراق من النقود المبعثرة ومضى في طريقه يتمتم بصوت منخفض “ماشي ماشي”.. كانت تلك الكلمة والقصاصة تعني بداية رحلتي مع الشاعر كاظم الركابي التي استمرّت حتى وفاته.
في إحدى المرّات كنت بجانبه وهو يهيئ مادة كتبتها كي تنشر في عدد الجريدة، التفت لي أكثر من عشرين مرة، سألني: “تعتقد لو نشيل هاي الكلمة من عنوان موضوعك تصير أحسن؟” فأجيبه بالإيجاب..، “وإذا نضيف هاي العبارة للموضوع.. شتكول؟”، وهكذا، حتى ارتدى الموضوع رداء أجمل بكثير مما كتبته، لم أرَه يوماً منفعلاً أو متشدّداً في رأيه ولا متزمتاً، حياته تشبه كتاباته، برومانسيتها وعذوبتها، سهلة بسهولة مفرداته وحياته، شكا له شقيقي الشاعر عام 1986 عدم منحه الفرصة كشاعر شاب، فأوقفه قرب نبات لم تمنعه موادّ الإسفلت والإسمنت والرمل من شق طريقه للنمو، وطلب أن يتأمل هذا النبات ويأخذ العبرة منه.
لم يكن يعتقد، لا هو ولا حسين نعمة وربما ولا حتى كوكب حمزة، أن أغنية (يا نجمة) التي كتب كلماتها عام 1969 ستكون انطلاقتهم نحو الشهرة، الشاعر والملحن والمطرب، وفي ذلك العام أقام في الناصرية مع زميليه الشاعرين عادل العضّاض وجبار الغزّي أول مهرجان للشعر الشعبي..
يانجمة.. عونج يانجمة
متعلية وتشوفين
شينيمه…
نامت كلوب الناس
كلبي شينيمه
آنا بحلم لو يمر
تاخذني فرحة عيد
أنصب مراجيح وأدك
للّيل خلّه يزيد
يا نجمة ريت العشك
ياخذنه مدّه بعيد
لتتوالى بعدها قصائده الغنائية: يمدلوله اشبـكـه بعمري غير الألم والحسرة، وما بدّلك والنبي ما طول عندي عيون، وغنّاها الراحل سعدي الحلي، وللمطرب حسين نعمة كتب أغنية (كون السلف ينشال) ولحنها ابن مدينته كمال السيد، وأغنية (كصّت المودة) التي غنتها أنوار عبد الوهاب ولحنها كمال السيد أيضاً.
كاظم الركابي.. الإنسان الذي حين فقد آثار محبوبته راح يسال نفسه عنها..
شلونكم…شلون لون المستحه البوجوهكم
هم مثل الاول.. لو خبط مايه وتغيّر لونكم
ويستمر في اقتفاء معاني الحبيبة واستذكار ذلك الوجه المشرق الدافئ ..
جنت اشوف الشمس تطلع مرّتين
مرّه من حضن السمه
ومرّه تطلع.. من اشوف وجوهكم
شلون حال الوفه بين عيونكم
تربي لو عافت سججنه
انه بعيوني اشك ولا اشك بعيونكم
آنه بـكليبي اشك وما اشك بـكلوبكم
يقول “أبو رشا” وهو يستذكر محطات اللقاءات وأحاديث العشق الأول..
جان عيد … وجانت اعيوني ابسفر
اتبوس دنيانه وتزور
جفن يهديلي نجمة
وجفن يهديلي حمامة
وجفن يهديلي بخور
ولمه اجيتك ياجفن
عايدتني ابدمع
وبشمع .. وكبور
ردت اعاتب
جاوبتني ابنفس ذيج الاسطوانة
صوتك الذابل يدور
أبد لا تطفر نهر
وامشي ابدربك اشهور
وكعادة من يهجر عش المحبّة وينساه باحثاً عن بديل ليبقى على الطرف الآخر حبيب لم يطعه قلبه التنقل في أحضان جديدة..
يا من جنت واحدك وانت جنت واحدي
وانت عشـكت للألف وانه على واحدي
اتذلني واجيب الشعر يم حضرتك واحدي
الغنه ماهو غنه لو ماغنه بسماك
وعيوني مثل الطفل لمّن تهل بسماك
جنت بسماي الـكمر وانه جنت بسماك
اظلمت ليش وغبت وخليتني وحّدي
هكذا بقي الركابي وفياً لمن أحبها فقد كان الأول في دمعه قبلها والأول في الخطى إليها والأول حين نطق كلمة “أحبك” لكن غيره أصبح “الأول” فيما بعد..
آنه أول من رﭽـه عيونه على عينك وانت تالي
وانه أول من اخذ جدمه على بابك وانت تالي
وانه أول من كلت جلمة حبيبي وانت تالي
تالي غيري يصير الاول وانه تالي
تمنى أن ترسمه حبيبته لوحة، كما وعدته هي بذلك، إلا أن انتظاره طال كثيراً دون جدوى، إذ يبدو أن اللوحة رحلت معها من قبل أن تولد، مثلما هي عادة أمنياته التي غالباً ما يكون مصيرها الرحيل..
كـالت…
وصار من كـالت اسنين
وجهك المملي حنين
أحلى لوحة
وانتظرتج ترسمين
وذاك يوم وهذا يوم
لاني أبيض
لاني أخضر
لاني أحمر
وسألتها .. اسألتها شلون
تعذرتلي..
مالـكيت بلون وجهك أيّ لون
أحبَّ الناصرية كثيراً، كما أحبته، وعشق درابينها حتى آخر أيامه، لم يكن بوسعه أن يستمر في العيش ببغداد وعاد راجعاً إليها، فدخان مواقد الشاي وسط أسواقها ورائحة التبغ تستهويه حد العشق، وسط ذكريات لم تفارق ذاكرته وروحه..
يا ذكرياتي وملهمة أشعاري
يالناصريه…يالناصريه
اهنا لعبنه والشوارع دافيه
اهنا شربنه من الفرات العافيه
اهنا كلوب الناس طيبه وصافيه
يالناصريه.. يالناصريه
وحين يريد إيصال شجونه عبر القصيدة فإنه لا يتردد في تضمين عباراته الكثير من المفردات التي يصعب تفسيرها..
اجرحني .. يمن عتبه ﺇلك جرح المحب فرحه
الليل.. موش يحصد ليله.. ايحصد صبحه
و الحصو.. موش ايحصد روحه ايحصد جدحه
والبحر موش ايحصد روجه ايحصد ملحه
يادفو البين البرد والحر .. نريدك وين صاير
يلفراتي..
ولاسمعنه ابوجه روجك
يوكف احجار الكناطر
اضحكلي بشفاف الكمر..
أضحكلك ابسن منجلي
ولاغيمة تحبس ضحكتك
ولاخاين ابتل منجلي
شديته بالشريان .. شد ويه العظم
صار العظم هو منجلي
والمنجل ابجسمي عظم
والكلب فد دكـة يدك
نوبه الك .. ونوبه ﺇلي
وهي القصيدة التي ردّ عليها الشاعر كاظم اسماعيل كاطع وهو يرثي زميل دربه..
هسه ارتاح ذب نظارتك وامسح دموع العين
واتباره الذمم وي منجل الفلاح
طَفِّي آخر جـكـاره بخشبة التابوت
لأن كلب الخشب بس بالجوي يرتاح
يالطولك رمح خاف الشماته تصيح
مو بس الطيور الناصية تنلاح
يالعمرك سفر راح المنام يطول
لا تتعاجز من النوم…
تره نوم المكابر ما يِتَعْب اصفاح
شد نوط المنية بصدرك المعلول
مطبوعة الأسامي والمبلِّغ صاح
برفوف القيامه مصفطات ارواح فوك ارواح
وعندما اشتعلت نيران الحرب عام 1980 كتب مقطعاً واحداً لا أكثر، خالياً من لغة العنف وأصوات المدافع..
احنه مشينه للحرب
عاشك يدافع من اجل محبوبته
هذا العراقي من يحب
يفنى ولا عايل يمس محبوبته
ومن الطرائف أن الحكومة طالبته بإكمال القصيدة فيما بعد وبشكل فوري، فقال مخاطباً لطيف نصيف جاسم الذي كان وزيراً للثقافة والإعلام آنذاك “استاذ انطيني مجال كم يوم حتى أكمل القصيدة لأن هي مو ثوب وأحطّلها تطوالة عالسريع.”
سمعته مرة يتشاجر مع فنان من مدينته أمام نصب المبدعين في شارع النهر، ذلك النصب الذي احتوت كل طابوقة منه على اسم من أسماء أبناء الناصرية المبدعين ومشاهيرها.. داخل حسن، ناصر حكيم، حضيري أبو عزيز، خضير حسن، كمال السيد، زامل سعيد فتاح، حسين ارخيص، أبو معيشي وغيرهم، كان الركابي قد اختار مكان طابوقة داخل النصب لتتم كتابة اسمه عليها حين وفاته،، فيما أراد زميله نفس الطابوقة لتنتهي المشاجرة بضحكات عالية.
كان كاظم الركابي يصف أحلامه بمفردة “بسكوت” فكل شيء فيه ساكت، حتى لحظات رحيله كانت مفاجئة. لقد زرته في غرفته داخل منزله قبل موته بأيام، وكان ممدّداً وحاول استجماع قوته كي يجلس، لكني رجوته أن يظل كما هو، قلت له مازحاً “إن طولك الفارع لم تغيّره لملمة أطرافك وأنت ترقد على فراش بسيط كبساطتك،” لكن واقع الحال أن كاظماً يومها كان شديد الصفرة، ذابلاً بشكل فظيع وقد أخذ جسمه يهزل بسرعة عجيبة، مازالت تتردد ابتسامته بذاكرتي في ذلك اليوم، رغم أنه كان يصارع الموت من غير أن يشكو، حتى غاب مع غياب شمس الـ26 من نيسان عام 2001..
بسكوت.. بسكوت..
مثل ضحك الحلم..
أحبك لا تظل مثلي
عشك بسكوت
بسكوت مثل ﺒﭽي الحلم..
بسكوت
أناطر عالضوه
من ينسد الباب
واخضّر عالتراب..
البيه أثر جدمك
واصيحهن ياب
عطّاب الهوى البسكوت.. عطّاب
لا هو فرح.. لا هو دموع..لا هو عتاب
مات كاظم الركابي ولم يكن يملك من حطام الدنيا شيئاً سوى مسيرة حافلة بالعذاب والفقر.. ومن ثم المرض، لكنها غنية بالعطاء والإبداع والإنسانية، رحل تاركاً ذكرياته وبضع أوراق مبعثرة تحمل قصائد كتبها في أوقات متباعدة لم يتسنَّ له جمعها، إذ كان القدر أسرع من أن يمهله لإكمال مشاوير حياته، التي بدت قصيرة إزاء قامته الطويلة.