كاظم غيلان /
(بنيت في الرمل بيتي.. وكم تخون الرمال / حلمت أنك مثلي .. وكم يشق الخيال / وكل شيء سيمضي.. وينتهي بزوال).. هذا شعر كتبه كاظم فندي وغناه سعدون جابر. فكاظم ابتدأ حياته شاعراً مولعاً بشكل القصيدة العربية القديمة وله مخطوطة شعرية هي (الرمال)، إلا أن ولعه المبكر بالموسيقى قاده لعالم الألحان، فكان ضمن وجبة من فناني العراق في هذا الحقل قد تم قبولهم في إذاعة وتلفزيون بغداد بعد اكتشافهم كمواهب ضمن مسوحات ميدانية كانت تجرى وقتذاك.
هذه المجموعة كانت مؤلفة إضافة إلى فندي من (فؤاد سالم، سيتاهاكوبيان، حميد البصري، حسن الشكرجي) بداية العام 1968، وقدمت هذه المواهب للجمهور عبر برنامج – وجوه جديدة – من إخراج عمانوئيل رسام وتقديم الفنان الراحل خزعل مهدي، وفي نفس الفترة قام فندي بوضع أول لحن غنائي من أعماله (العيون السود) كلماتٍ ولحناً قام بأدائها داود العاني . حصاد كاظم فندي من الألحان العراقية منذ الأوبريتات المدرسية مروراً بتجربتين مهمتين في الأغنية العراقية (سعدون جابر وكريم منصور) كثير. لا غرابة في موهبة كهذه كان لبيئة محاطة بالمياه والأصوات فضلها الكبير برفدها بكل ماهو خصب وجميل.
لنتعرف على الكثير مما لدى كاظم فندي من آراء وانطباعات راسخة في يقينه كفنان ملتزم بما بقي من أصالة وإبداع في الغناء العراقي الذي يشهد تدهوراُ مخيفاً مرتبطاً بالعديد من مؤثرات أملتها ظروف مشابهة له عبر هذا الحوار:
تحديث الموروث
*علامتان يكتشفهما من يتابع تجربتك، البيئة التي عشتها أولاً وتأثرك بالألحان المصرية، فماذا تقول أنت؟
-البيئة هي الأساس في تكوين أي فنان، بعدها يأتي دور الثقافة العامة والتخصصية في ماهية تكون الشخص كاتباً، شاعراً، فناناً، وبالتأكيد لهذه البيئة تاُثير كبير جداً في القدرة التلحينية للملحن العارف بأدواته اللحنية، كما أن للسماع دوراً مهماً أيضاً، ولاسيما في المرحلة التي عاشها جيلنا، فقد تكون أسماعنا من الموروث المتراكم من بيئة ميسان تحديداً – بالنسبة لي- فكل الأصوات الغنائية في الجنوب، إضافة لذلك الموروث الغني لأصوات أولى ممثلة بمسعود العمارتلي وجويسم وكريري وجعفوري، فضلاُ عن قربنا لمدن مجاورة تكتنز بتجارب ثرية كما في الناصرية ممثلة بداخل حسن.
في بداياتي حاولت أن استكشف جماليات الموروث الشعبي من خلال علاقتي بالشاعر سعدون قاسم الذي يمتلك معرفية عالية بهذا الموروث، ولقد تمكنت من إعادة صياغة هذا الموروث بتحديثه وأبعاده عن قوالبه التقليدية، وهذا ليس ادعاءً، إنما الألحان التي وضعتها لأغنيات مستمدة من الموروث هي الدليل ممثلة بأغنيات لسعدون جابر (لوه ولوه، بشيره، المعيبر، هوه العالي، جتني الصبح) وغيرها الكثير، فلم أكن مقلداً أو ناسخاً لذلك الموروث، إنما مبتكر لألحان جديدة بنيت على أرضية متخلصة من جاهزية النقل الميكانيكي لذلك الموروث، وهذه مهمة من يريد أن يبدع من وجهة نظري.
أما فيما يخص بتأثري -مصرياً- فهذا حاصل تحصيل لسماعنا المبكر والمشبع للغناء المصري الذي يمتلك سطوة هائلة في الذائقة العربية بشكل عام، لكنني لم أقع تحت تأثير أي عمل غنائي مصري.
أصعب ألحاني
* مكتشفاتك للطاقات الغنائية واضحة في تجربة الفنان كريم منصور، فهل يمكن معرفة خصائص طاقته الغنائية؟
-وجدت في هذا الفنان قدرة كبيرة في الأداء، ولم يتعبني أبداً، حتى أنه كان يصغي إلى ألحاني ويحفظها بدقة مع أنها لم تكن له كما في بعض أغنيات لسعدون جابر (جتني الصبح)، فضلاً عن أنه عازف ماهر على آلة العود ومستمع ذكي متميز للغناء العراقي والعربي ومؤدٍ ناجح حتى لأغنيات غيره من الفنانين، ولعل (بس تعالوا) من أصعب ألحاني لأنها متخلصة من الأسلوب التقليدي في التأليف الموسيقي وعدها البعض (أطروحة موسيقية) جديدة لخروجها عن المألوف في قالبها اللحني.
قنوات تجارية
لمن تعزو أسباب هذا التراجع الواضح والآخذ بالتضاعف في عالم الغناء العراقي اليوم؟
– الأجهزة الحديثة، السوشيال ميديا، التقنيات السريعة الجاهزة، أسهمت في تردي ذائقة الناس، هذا الذي لم يكن حاصلاً في زمن الغناء الأصيل، أصبح كله جاهزاً بحكم وفرة المال لدى البعض ممن لايهمه سوى الربح السريع، لم يعد موجوداً ذلك المستمع الذي يتوفر على قدر عال من الذائقة المهذبة بحكم مايبث عبر القنوات التجارية وسائر وسائل الإنتاج التي استقطبت وتبنت الطاقات المشوّهة، وهذا ليس تعميماً فهناك طاقات وإمكانيات مبدعة وجميلة ولكن ماعساها تفعل، لذلك اضطر العديد منهم للعمل في بلدان الخليج، بل وحتى شعراء أغنية اضطروا لذلك، هذه الأسباب نفسها مجتمعة كانت وراء انزواء حتى كبار مطربينا.
* البعض يرى في مشروعك تكريساً لصوتين فقط هما سعدون جابر وكريم منصور، ما مدى صحة هذا الانطباع؟
-هذا رأي فيه من غياب الدقة وعدمية الدراية الكثير، فقد لحنت للعديد من الأصوات الغنائية المعروفة كسعدي الحلي، محمد السامر، حميد منصور، ياس خضر، حسين نعمة، صلاح عبد الغفور، علي العيساوي، ولي مشروع مقبل مع ماجد المهندس كما وضعت الحاناً لأغان من كلمات الشاعر كريم علي خضير.