جواد غلوم/
أحيانا ألجأ لِلاستماع الى نخبة من الأغاني المنتقاة المحفوظة في مكتبتي الحاسوبية بعد أن يملّني الكتاب وأملّه، فلا عجب أن يدخل الملل بين اثنين تحابّا وتعلّقا ببعضهما ولو كان بين صديقين أثيرين مثل مالك وعقيل اللذين يضرب بهما المَثل في الصداقة الحقيقية الخالصة من شوائب الطمع أو بين حبيبة وحبيبها ولو كانا جميلا وبثينة،
وهذه المرّة انتقيت بعضا من القصائد المغناة بصوت عبد الحليم حافظ الذي كان وسيبقى حاضرا كلما اجتمع حبيبان معاً فجاءني صوته غاضبا مزمجرا وكأن الطرب في ثناياه بدأ يخفت ولم أسمع سوى صيحات التحدي ومخاطبة الغريم بقسوة:
حبيبها، لست وحدكْ حبيبها
أنا قبلك وربما جئت بعدك
وربما كنت مثلكْ
ما أن انتهى حليم من غنائها حتى رحت انبش في حيثيات القصيدة وسبب كتابتها لأنني أعرف الشقاء الذي عاناه شاعرها الموجوع كامل الشناوي بسبب الجفاء والصدّ الذي كان يلاقيه ممن كان يعشقهن؛ وكلنا يعرف قصة قصيدة لاتكذبي التي نظمها عام / 1962وهو يبكي ويهطل دموعا حرّى كما قال صديقه الصحفي مصطفى أمين في كتابه “شخصيات لاتُنسى”، وسعي نجاة الصغيرة راكضة الى محمد عبد الوهاب كي يقوم بتلحينها بعد أن سمعت القصيدة من فم الشاعر الشناوي عن طريق سماعة التلفون وكتبتها بأناةٍ وهي تصغي الى القصيدة.
شاعرنا هذا استغل يوم عيد ميلاد من تخيّلها حبيبته من طرف واحد كما يقول العشاق ودعاها الى بيته مع نخبة من الأصدقاء، كان من بينهم الروائي المصري المعروف يوسف ادريس بعد أن اشترى الشناوي لها أغلى الهدايا ووزع النشرات الضوئية في أرجاء مكان الحفل ونشر الألوان الجميلة والبالونات الزاهية؛ تتوسط المكان كعكة عيد الميلاد باسم نجاة البارز وسط الكعكة.
المدهش أن نجاة مدت يدها الى يوسف ادريس تدعوه ليشاركها قطع الكعكة وإطفاء الشموع ولم تعبأ بصاحب الدعوة الذي كان يأمل أن تدعوه؛ وتخيّل السكين في يدها وكأنها تقطع الحب إربا إربا.
ويحفر الحب قلبي
بالنار ، بالسكين
وهاتف يهتف بي
حذارِ يا مسكين
وما أن انتهى الحفل وتوزع المدعوون للاستراحة خارج الغرفة خرج شاعرنا بحثا عن نجاة ليقدم لها ماانتقاه من هدايا جميلة، فاذا به يصدم مرة أخرى وهو يرى حبيبته في أحضان صديقه وغريمه يوسف ادريس وقد اختليا في مكان قصيّ وبعيد عن الأنظار.
أيّ هلع ورعدة واختلال قد هزّت هذا الشاعر، ومن دون أن يمسك رباطة جأشه ويسيطر على توازنه، ومن شدّة غِيرته؛ صاح بوجه غريمه مرتجلا مطلع قصيدته “حبيبها لست وحدك حبيبها” ، وما أن انهاها الشناوي حتى سارع حليم الى صديقه الملحن محمد الموجي لأجل تلحينها وبرغم قصر القصيدة لكن الموجي برع في تلحينها فأشبعها بالموسيقى والمقاطع السمعية الساحرة حقا، وطمع عبد الحليم أكثر بعد نجاح الأغنية فطلب منه قصيدة أخرى فأعطاه “ لست قلبي “ التي بدورها بقيت في درج محمد عبد الوهاب مايزيد على السنة بعد أن عانى من تلحينها، فالمعروف أن عبد الوهاب شديد التأنِّي في صياغة ألحانهِ وتأخذ القصيدة منه وقتا طويلا حتى يلبسها ثوب لحنها اللائق لها كثيرا فظهرت أغنية غاضبة عاتبة ولائمة مع جزالة سبكها وقوة لحنها.
هذا الشناوي الشاعر الرقيق قد ابتلاه الله بالبدانة المفرطة فضلا عن طلعته التي طغت عليها الدمامة بدل الوسامة فترهلت أخاديد وجهه في سحنته السمراء وأنفه العريض… ولأن عدالة السماء لاتحدّها حدود فقد عوّضه الله بقريحة شعرية قلما حظي بها شاعر من معاصريه في أرض الكنانة فكان يعتاش على ماتجود به شاعريته من قصائد رائقة لأهل الفن والغناء ويكافأ عليها مالا موسرا لتغطية نفقات خمرته ومصاريف السهر والليالي الملاح التي أدمن عليها، إذ كان يفرط بالشراب الى حدّ كبير في حانات مصر وفنادقها الكثيرة ويقضي لياليه فيها، حتى أنه كان له مقعد مخصص شبه دائم في فندق الهيلتون المطلّ على نهر النيل، والغريب في طباعهِ أنه كان يخشى الموت جدا وهاجسه الدائم أن عزرائيل ملك الموت ينشط دائما في الليل قابضا أرواح الناس النيام وبقي على هذا المنوال دائم السهر حتى يعود أول الفجر الى شقته في الزمالك فينام ساعات طويلة في النهار وحيدا في مسكنه حيث لازوجة تنتظره ولا عيال تثير الهياج وسط البيت، إذ فضّل أن يعيش طوال عمره عازبا هادرا أمواله خمرا ولهوا دائما فعاش على حافة الفقر في أواخر حياته حتى مات العام / 1965
يكاد يكون كل المطربين والمطربات من الطراز الرفيع والبارز يطمعون في قصائده، ولا أنسى الموسيقار فريد الأطرش الذي أغرم بشعره جدا وطلب منه مجموعة من القصائد لتلحينها فبعث اليه قصيدة مطلعها
لا وعينيك ياحبيبة روحي —- لم أعدْ فيكِ هائماً فاستريحي
ثمّ تبعها بقصيدة حزينة غاية في التشاؤم والأسى:
عدت يا يوم مولدي —– عدتَ يا أيّها الشقي
الصِّبا ضاع من يدي —– وغزا الشيبُ مفرقي
ليتَ يا يوم مــولدي —— كنـتَ يـوما بلا غــدِ
بعدها ذاع صيته أكثر فأكثر لمّا غنت له أم كلثوم مقاطع من قصيدة وطنية له ومنها “ أنا الشعب لاأعرف المستحيلا “
فمن يقرأ شعره ويتأمل معناه ومبناه يهجس بأنه من خيرة شعراء عصره وأوسعهم إبداعا وابتكارا، وكان بامكانه أن يكون علما شعريا بارزا يجاري أحمد شوقي وحافظ ابراهيم وشعراء أبولو في منزلته الأدبية لولا أنه عبثَ بحياته وانصاع لسلوكه البوهيميّ غريب الأطوار، ولا أغالي لو قلت أنه سيكون في الصفوف الأولى من شعرائنا الكبار لو رتّب طرائق عيشهِ واهتم بموهبته الشعرية الخارقة واتّزنَ في مسلكهِ وترتيب نفسهِ بدلا من انغماسهِ في حياة المجون التي افقدته من أن يراعي دفقه الشعري، وقد أعزو تلك الحياة التي اختارها الى القدَر والحرمان من الحب الذي كان له بالمرصاد فلا حبيبة ارتضت أن يكون الشاعر الشناوي فارس أحلامها، فعاش الشقاء والعذاب والجفاء بكل صوره المؤلمة، عزوبية دائمة ولا زوجة مؤنسة تشاركه حياته فلجأ الى الخمرة والحانات والسهر الطويل تعويضا عن شدة الحرمان وهول الوحدة وهذا في تصورنا هو الشقاء الكبير بعينه.