كتاب أسرار الموسيقى لـ علي الشوك.. عالم من قيم الجمال والفلسفة واللاهوت

صلاح حسن /

قد يحق لنا أن نبدل مفردة “اهتمامات موسيقية” الواردة في الفصول الثلاثة الأولى من كتاب الباحث علي الشوك “أسرار الموسيقى” إلى مفردة “انهمامات موسيقية” إذا استوحينا عنوان كتاب الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو”الانهمام بالذات”، لما تنطوي عليه هذه الفصول من بحث شخصي محموم عن متعة الروح التي يتحقق من خلالها الانهمام بالذات، مضافة إليها المتعة التي ترافق تحقق هذه الذات.

قد يحق لنا أن نبدل مفردة”اهتمامات موسيقية” الواردة في الفصول الثلاثة الأولى من كتاب الباحث علي الشوك “أسرار الموسيقى” إلى مفردة “انهمامات موسيقية” إذا استوحينا عنوان كتاب الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو “الانهمام بالذات”، لما تنطوي عليه هذه الفصول من بحث شخصي محموم عن متعة الروح التي يتحقق من خلالها الانهمام بالذات، مضافة إليها المتعة التي ترافق تحقق هذه الذات.

تاريخ الموسيقى

الدافع إلى هذا الاقتراح هو الخلاصات النادرة التي توصل إليها المؤلف والتي تنم عن جهد قرائي وبحثي مالنخولي في كل ما يتعلق بالموسيقى منذ نشأتها الأولى وحتى آخر صرعاتها التي نشهدها اليوم. ليس هذا فحسب، الانخراط في تقنياتها وحرفيتها وشعريتها إذا صح القول، إذ إننا نجد الكثير من الخلاصات التي تقترب من جوهر الشعر إذا لم نقل إلى جوهر السحر من دون أن نكون مبالغين .
يعيدنا علي الشوك صاحب الأطروحة الفنتازية في هذا الكتاب إلى الإرهاصات الأولى للموسيقى من دون أن ينسى أي تفصيل صغير وهو يقلّب مادته على أوجهها كلها، مستخدماً الكثير من المصطلحات الخاصة التي نحتها شخصياً في وصف تلك الظواهر المثيرة وتحليلها، مما يجعل أفكاره دقيقة وسهلة الفهم بالنسبة إلى القارئ الذي لم يعتد سماع تلك المصطلحات الموسيقية الغامضة الغريبة. وبرغم أن الكتاب مخصص للبحث عن أسرار الموسيقى، إلا أنه في الوقت نفسه بحث في الفلسفة وتاريخ الفن واللغة والأسطورة واللاهوت أيضاً. ذلك أن الحديث عن الموسيقى يشترط المرور بكل هذه الفنون والعلوم من أجل تقديم صورة ناصعة لهذا العالم الذي لم تتراجع قيمته الجمالية الراقية منذ انبعاثه وحتى اليوم.

علاقة روحية

لا يعير الكاتب اهتماماً إلى التسلسل المنطقي للزمن وهو يبحث عن أسرار الموسيقى. فأفكاره الثرية المتشعبة تجبره على التنقل بالزمن صعوداً وهبوطاً كلما دعت الحاجة إلى ذلك. فالكتاب ليس بحثاً أكاديمياً يشترط على الباحث البدء من نقطة الصفر إلى غايته الأخيرة، بقدر ما هو حنين وعلاقة روحية بفن راق مثل الموسيقى استغرقت عمراً كاملاً. لذلك يأتي الحديث عن الأصول الموسيقية متأخراً بعض الشيء من دون إن يؤثر ذلك في السياق العام للأفكار. وبدلاً من الحديث عن موسيقى بدائية يبدأ الحديث عن الموسيقى الدينية التي نشأت في المعابد وأماكن العبادة، بدءاً من سومر في حضارة وادي الرافدين التي استخدمت في طقوسها القيثارات والدفوف إلى بقية الحضارات التي جاورتها مثل الحضارة المصرية والفينيقية والإغريقية.

وعند الحديث عن الموسيقى في الكنيسة الشرقية وعلاقة ذلك بالموسيقى في الكنيسة الغربية، يكشف الباحث عن الكثير من الأدلة التي تؤكد تأثر الكنيسة الغربية بموسيقى الكنيسة الشرقية التي سبقتها في كل شيء تقريباً حتى هرطقياً. إذ إن الكنيسة الغربية مدينة إلى الكنيسة السورية على وجه التحديد بكل الأشكال الموسيقية التي استخدمت فيها في ذلك الوقت. وكان القديس افرام أول كاتب تراتيل من الكنيسة السورية وقد كتب تراتيله باللغة السريانية القرن الثاني.

عمالقة الموسيقى

إما في ما يتعلق بالموسيقى الكلاسيكية، فلا تكاد تخلو صفحة واحدة من الكتاب من ذكرها أو ذكر عباقرتها لأنها في تصور الباحث المرحلة التي بلغت فيها الموسيقى كمالها حتى أكثر من اللغة ذاتها. لذلك نراه يدبج صفحات طويلة في مديح بيتهوفن وموزارت وباخ وفرانز لست وكأنه عاشق من طراز رفيع، وهو على حق بطبيعة الحال. فمن يستطيع أن ينكر التأثير الخارق لهؤلاء العباقرة في الحضارة الإنسانية؟ لكن، ما هو التأثير الذي تتركه الموسيقى في الموسيقي نفسه، تلك القوة السحرية التي تصيب الآخرين بالجنون؟ هل يكمن السر في الضرب على أوتار التوجع الكتيم عند الإنسان… وتر الكآبة والمالنخوليا؟ لقد أثنى فردريك نيتشه على فاغنر بصفته”أعظم مالنخولي في الموسيقى… وسيد الأنغام المالنخولية والسعادة والنشوى”. بالمناسبة يذكرنا هارتموت بومه بأن الفلسفة كانت ولا تزال فكراً مالنخولياً في جوهره. هناك تقليد قديم حول العلاقة بين الكآبة المالنخوليا والثقافة أو المثقف، وضع أرسطو المالنخوليا في مصاف الأشياء البطولية التي تقترن بالعباقرة. فإذا كانت الفلسفة فكراً مالنخولياً، فمن باب أولى أن تكون الموسيقى كذلك، لأنها لا تجترح الكآبة بقدر ما تجعلها مهضومة أو مستعذبة. ولعل هذه المالنخوليا الموسيقية المستعذبة هي التي عبّر عنها نيتشه في حديثه عن”آلام السعادة الحقة”التي ينشدها في الموسيقى. أو كما عبّر عن ذلك بيتهوفن حين قال أن الهموم والآلام سلّم إلى الكمال.