كريستيانا دي ماركي.. خيطٌ رقيقٌ بين الشعر والتشكيل

زياد جسام /

شهدت السنوات الأخيرة انقلاباً كبيراً على المستوى الإبداعي، من حيث صناعة الأعمال الفنية وإخراجها، إذ تنوعت اتجاهات الرسم والنحت والتصميم والعمارة وغيرها، كما أعيد إنتاج الفن وفق تأثيرات واستعارات بين المادة والملمس، وحتى المفهوم، فقد أصبحت الخامات اليوم هي الغاية في صنع العمل الفني، بعد أن كانت، فيما مضى من تاريخ الفن، وسيلة لإيصال فكرة معينة.
الفنانة الإيطالية المقيمة في دولة الإمارات العربية المتحدة “كريستيانا دي ماركي Cristiana De Marchi‎‏”، من الفنانين الذين اشتغلوا على موضوع التنقيب في الخامات القديمة وتحويلها الى أعمال حديثة مؤثرة، فقد جمعت هذه الفنانة بين الشعر والفن التشكيلي، وتميزت بما قدمته من نتاجات فكرية مهمة، في معرضها المقام حالياً على قاعة مرايا للفنون في دولة الإمارات بالشارقة تحديداً، معرض تشكيلي حديث حمل عنوان “خيطٌ رقيقٌ.. في رهافة الكلمات الهائمة.”
اقتباسات شعرية
اقتبست الفنانة كريستيانا عنوان هذا المعرض من قصيدة كتبها الشاعر الألماني المبدع بول سيلان عام 1955، التي جاءت كردّة فعل على ويلات الحرب العالمية الثانية، إذ يستعين الشاعر بقوّة الكلمة للتعبير عن قدرة الإنسان على النهوض بعد سقوطه، وإمكان التعافي من تجربة هددت وجوده، كما صورت القصيدة القدرات البشرية وهي في طريقها للتلاشي كخيطٍ رفيع يبلغ المدى، لتعود بكامل قوتها.
وجاء اعتماد المعرض على هذه القصيدة الشعرية المؤثرة نقطة انطلاق تعالج من خلالها مفهوم البناء والتدمير والعديد من الفروق الدقيقة التي تعكس التفاعل بينهما.
كما مثلت كلمة “خيط”، في القصيدة، المادة الأساسية التي استعانت بها الفنانة كريستيانا في المعرض، فقد استعملت مجموعةً من الخيوط بألوان مختلفة وتقنيات متنوعة على سطوحٍ عدة، ثنائية وثلاثية الأبعاد.
من جهة أخرى، سعت الفنانة الى تقديم صياغات مبتكرة في تقنيات التطريز التقليدية بالإبرة، التي غالباً ما ارتبطت بالفنون النسوية والمنزلية القائمة على الحرف اليدوية، فقد أرادت هذه الفنانة تصوير تقنية الخيوط الكلاسيكية كوسيلة فنية معاصرة ومتعددة الاستعمالات، لها حضورها اللافت، وعكست إبداعاتها في المعرض طابعاً حديثاً يتميز بالبساطة وأحادية اللون.
إعادة انتاج
هذا هو التحول الثقافي للمنتج في الفن المفاهيمي وفنون ما بعد الحداثة، فالفن التشكيلي ينمو ويتسارع بسرعة المعلوماتية والتكنلوجيا، وقد لوحظ ذلك من خلال الأعمال الحديثة التي تنتج على يد المبدعين المعاصرين، التي تبدو وكأنها انتجت عن طريق تجميع بعض الأشياء الموجودة في حياتنا، كشاشات التلفاز او الحواسيب او أي منتج آخر، وربطها بأجهزة او مكونات أخرى لإنتاج أعمال بصرية عصرية مرتبطة بقيم جمالية حسية سريعة التنفيذ.
لا شك في أن إعادة إنتاج الخامات، وتحويلها الـى أعمـال تشكيلية مهمة، يتطلبان من الفنان أن تكون لديه موهبة حقيقية، بالإضافة الى حرفية عالية في التعامل مع الخامات وتطويعها، فهناك أسماء لا تعد ولا تحصى من الفنانين والفنانات حققوا حضوراً في الساحات الفنية العالمية من خلال استثمار هذه المواهب، وكانت الفنانة كريستيانا دي ماركي Cristiana De Marchi‎‏ واحدة من هذا الكم الكبير.