حربي محسن عبدالله/
لكي نلقي الضوء على مسيرة الفن التشكيلي علينا أولاً أن نتعرف على مفردات هذا الفن وأدواته والتذوق الفني والتجربة الجمالية والإنسان الذي هو صانع الصور. فمن الرسوم على جدران الكهوف للإنسان الحجري انحدر إلينا رصيد ضخم من الفنون البصرية استمر قائماً إلى يومنا هذا.
وبالرغم من أن الحافز لهذه الرسوم قد اختلف من عصر إلى آخر. إلا أن الشواهد الكثيرة تدلل على مدى حاجة البشر إلى نقل تجاربهم وتحويلها إلى رموز صورية. يناقش الفيلسوف ألبرت تشالندر في كتابه “الجمال والطبيعة البشرية” المتعة التي يجدها الفرد في الفنون، فهو يطلق على المتعة تعبير “التجربة الجمالية” فيقول: باستطاعتنا تحديد معنى التجربة الجمالية بعبارة المتعة بالتأمل، أو بديهة الاستمتاع. فعندما أتمتع بمشهد الغروب الجميل فأنا أحس بالرضا بالتأمل فيه. إن فضولي العقلاني، حينئذ، يكون في غيبوبة. فأنا لا أعبأ آنئذ، بالمسببات الطبيعية من ضوء وغيوم. اهتماماتي العملية معلّقة فلا أعير اهتماماً، آنذاك، إن كانت السماء تنذر بالجفاف برغم أن حديقتي بأمسّ الحاجة للمطر. لديّ متعة بتأمل الغروب فحسب.
المتعة هي الأشمل
قد تعني كلمة “متعة” على نحو غير مباشر، الحالة الذهنية المتولدة من الرغبة في إطالة التجربة موضوعة البحث. فمصطلح “المتعة” أفضل من السرور، لأن المتعة هي الأشمل. فالانشداد القلق الذي تثيره التمثيلية العاطفية نادراً مايثير السرور، لكنه، من دون أدنى ريب، متعة مادام الناس يسعون إليها ويبغون إطالتها وتكرارها. وقد يقال الشيء نفسه عن الموسيقى الحزينة وشعر الرثاء، فهما يجعلاننا نذرف الدموع، لكن تجربتنا هذه مع ذلك تسبّب لنا المتعة في الأساس. إن التجربة الجمالية هي نتاج التواصل بين الشيء الفني والمشاهد. وهذا التواصل لا يتأتى إلا إذا تهيأت الظروف لحدوثه. وهذه الظروف هي استعداد المشاهد وقابليته على تحسس وإدراك معالم ذلك الشيء. أو التجربة التي تساعد على خلق حالة من المتعة الجمالية قد تنشأ بفعل الاستجابة الحاصلة تجاه الحافز في الطبيعة والحافز الذي هو من صنع الإنسان معاً.
حوار الرؤية
يتساءل ناثان نوبلر في كتابه “حوار الرؤية” عن موقف التجربة الجمالية المطلوب. فيقول: “في البدء من الضروري أن يوجّه اهتمام المشاهد إلى الشيء الذي أمامه فالناظر إلى عمل فني يجب أن يوجّه كامل اهتمامه إليه. قد يحصل بعض الاتصال بالعمل الفني من دون أن يركّز المشاهد تركيزاً مطلقاً فيه، فمعظم الناس الذين يعيشون في غرف تزيّنها الرسوم قد لا يتوقفون لتأملها إلا توقفاً عابراً. وآخرون قد يستمعون إلى الموسيقى وهم ينجزون مهامهم المنزلية، فيجمعون بين العزف الموسيقي والطبخ ونفض الغبار في آن واحد. وكلا المثالين يؤلف اتصالاً غير مباشر بالعمل الفني، أي ليست هناك بينهما علاقة “وجهاً لوجه” كما يقال. وهناك أمثلة أقل وضوحاً لكن لها النتائج نفسها؛ فالتجوال العابر في أروقة المتاحف والمعارض دون التوقف والتأمل لتلقي التأثير المحتمل، وتداخل الضوضاء وجموع الناس التي تعيق التركيز، والإضاءة الرديئة، والخلفيات غير المنسّقة، كل هذه تخلق حاجزاً من نوع ما بين الناظر والعمل الفني. كما أن النتيجة التي توصل إليها الفلاسفة في أن تعريف الجمال يختلف من شخص إلى آخر عزّزتها الدراسات النفسية التي أوضحت أن رد الفعل الجمالي مماثل لردود الأفعال العاطفية، وأن ردود الأفعال الفردية تختلف بجلاء من شخص إلى آخر.
إثارة حاسّة الجمال
ومنذ مرحلة الطفولة ، يتلقى الواحد منا إحساسات لا تحصى تشكّل في داخله استجابة محتملة لحوافز معينة. ولأن ردود الأفعال العاطفية متباينة، ولأن هناك العديد من الخصائص المجهولة لإثارة حاسة الجمال في نفوسنا جميعاً، فمن المتعذر إرساء معايير مطلقة لتعريف الجمال، إذ ستثار الأسئلة من جديد: “جميل لمن؟” أو “جميل متى؟”. ولكي نصف الفن بالجمال يجدر بنا “حينئذ”، أن نقصر تعريف الكلمة على مستوى شخصي بحت بحيث تعدو الكلمة فيه غير ذات معنى. إن الفن هو نتاج إنسان ينظم فيه المواد بحذق ومهارة لكي يوصل تجربة إنسانية ما. وضمن هذا المفهوم يتسنى لبعض المشاهدين أن يرى الجمال، وقد تتاح لبعضهم الآخر الفرصة لكي ينعم بمتعة فكرية وعاطفية. وقد لا يرى غيرهم، إلا لغزاً يقلقه. في عام 1911 نشر الرسام والمنظّر الروسي فاسيلي كاندنسكي كتاباً حاول فيه تعريف مفاهيمه الجديدة في الفن. ففي كتابه (عن الروحية في الفن) شرح كاندنسكي نظريته في فن يقوم على القناعة الداخلية. إنه يشعر أن الفن يجب أن يستل من التجربة الحقيقية لكنه أيضاً يجب أن يتكامل بفعل شخصية الفنان الفرد وواقعه الذاتي المحض من دون أية محاولة لتمثيل مظهر العالم الخارجي صورياً.
لغة الشكل واللون
ولتحقيق ذلك فقد اقترح استعمال “لغة الشكل واللون” كما اضفى قيماً تعبيرية على ألوان وأشكال معينة وأكد أن من الضروري للفنان أن يرسم وهو يضع في اعتباره مسبقاً هذه القيم لأنها تمثل ذاتية الفنان. أي استجابته “الروحية” للتجربة. لذلك يقول:( في الواقع ليس بالإمكان عدّ صورة ما “مرسومة” جيداً، اذا ملكت قيماً لونية صحيحة حسب. لكن المرء يطلق عليها هذا الوصف إن كانت ملأى بالحياة فــ”الرسم الكامل”، هو ما ليس بالإمكان تغيير شيء فيه دون القضاء على الحياة الضرورية الكامنة. وبغض النظر عما إذا كان هذا الرسم يناقض فكرتنا عن علم التشريح، وعلم النبات أو غيرها من العلوم. المسألة ليست مسألة انتهاك للشكل الخارجي العرضي، لكنها فقط مسألة اعتماد صفته على حاجة الإنسان إلى أشكال معينة، مهما يكن النسق الواقعي. كما أن الألوان يجب أن تستعمل لا لأنها تصور الطبيعة، بل لأن الانسجام اللوني مطلوب للرسوم كل على انفراد. وللفنان كل الحق في استخدام أي شكل من الأشكال التي يعدها ضرورية لتحقيق هدفه، بل أن من واجبه أن يفعل ذلك). بالعموم أن التذوق الفني هو حوار رؤية بين المشاهد والعمل الفني الذي أمامه. حوار يتطلب محاوراً ملمّاً، مدركاً ومتجاوباً من ناحية، والعمل الفني من ناحية أخرى، والطرف الثالث أي الناقد والمدرس إنما يكون وسيطاً لتقديم المحاور إلى العمل وإعداده لتذوقه، ولكن ليس بوسعه أن يفعل أكثر من ذلك، لأن تذوق الفن لا يمكن تلقينه، فهو ينمو في المشاهد حين يكون مستعداً له. ولن ينمو إلا إذا قام الاتصال المستمر بين المتحسس والعمل الفني.