علاء المفرجي
القصيدة الوطنية للبلاد، كما شبهها الكولومبيون، تلك هي رائعة غابرييل غارسيا ماركيز (مائة عام من العزلة)، التي أصبحت مادة دراسية مقررة في بلده. وهي الرواية التي فاز ماركيز بسببها بشكل خاص بجائزة نوبل عام 1982، وتعد من أهم الأعمال الإسبانية الأميركية خاصة، وأهم الأعمال الأدبية العالمية، وأكثر الروايات المقروءة والمترجمة إلى لغات أخرى.
إن هذه الرواية يتفق الكثير من مؤرخي الأدب على أنها علامة فارقة في الإنجاز الأدبي خلال القرن العشرين.
كانت هناك أكثر من محاولة لمعالجتها سينمائياً، فلطالما اعتبرت (مائة عام من العزلة) رواية من المستحيل تحويلها إلى شاشة السينما. حتى أن مؤلف العمل، غابرييل غارسيا ماركيز، ادعى أن هذه الرواية الضخمة قد كتبت على وجه التحديد لإثبات أن الكلمة المكتوبة لها نطاق أوسع من السينما. فقد عانى كثيرًا من بعض التدخلات غير الصائبة. كان معارضًا بشدة لرؤية ما حدث في فيلم (الحب في زمن الكوليرا)، ولم يرغب أبدًا في حدوث ذلك مرة أخرى في فيلم (مائة عام من العزلة). لكنه قبل وفاته، وكما طلب، أن يتم تصوير المسلسل في كولومبيا، باللغة الإسبانية، مع طاقم عمل كولومبي بالكامل. وكان هذا هو الشرط الوحيد الذي طلبه، ونجحت خدمة (نتفليكس) في تحقيق هذا الشرط، وتمت ترجمة هذا العمل الضخم إلى التلفزيون، الأمر الذي جعل الكولومبيين، الذين يحبون كاتبهم، يشعرون بالسعادة بعد أن ضاقوا بالانطباع المبني على التصورات التي تخص بلدهم على الشاشة. وهو ما أراح العديد من الكولومبيين، الذين يحبون الكاتب الراحل بشدة ــ الذين سئموا من التصويرات الأخرى لبلادهم على الشاشة، باعتباره مكانًا خارجًا عن القانون، وملعبًا متاحًا لتجار المخدرات.
خيال أدبي
صنّاع المسلسل كانوا حريصين على الأمانة في معالجة نص الرواية، وهم بذلك يمتثلون لرغبة عشاق العمل الروائي، الذين يرون في هذه الرواية منعطفًا كبيرًا في تاريخ المشهد الروائي العالمي؛ برغم معرفتنا أن ما يجعل الخيال الأدبي جيداً لا يصنع بالضرورة تلفزيونًا جيدًا، فالخط الزمني يقفز باستمرار إلى الأمام والخلف، وتتضمن الحبكة الكثير من الجنس، ويشترك العديد من الشخصيات في نفس الاسم، ومن هنا كان إصرار غارسيا ماركيز على أن شكل ومحتوى الرواية يعني أنه لا يمكن أبداً تكييفها للشاشة. وهو ما جعل صنّاع المسلسل يلجأون إلى تكثيف السرد الممتد على مدار قرن من الزمان، وتاريخ سبعة أجيال في 16حلقة (من المؤمل عرض الحلقات الثماني القادمة في موسم ثان).
تأريخ كولومبيا
تحكي الرواية القصة التي تمتد لقرن من الزمان لمؤسسي مدينة ماكوندو الأسطورية، خوسيه أركاديو بوينديا وزوجته أورسولا وأحفادهما، في قصة تقارب أحيانًا تاريخ كولومبيا.
تبدأ حكاية (مائة عام من العزلة) في منتصف القرن التاسع عشر، بالحب المحرم (حسب قوانين الكنائس الكاثوليكية)، وفي خضم تجمع من الفرح والابتهاج، يتعرف الجمهور على العاشقين الشابين، خوسيه أركاديو بوينديا (ماركو أنطونيو جونزاليس) وأورسولا إيجواران (سوزانا موراليس). ومن المؤسف أن أقاربهما لا يستمتعون بتوهج العروسين. ولأن خوسيه وأورسولا أبناء عمومة، فإن مخاوف الأسرة بشأن زواج الأقارب تتعدى على الاحتفال، وترعب والدة أورسولا ابنتها بتنبؤات شريرة بأنها ستلد أطفالًا وحوشًا بذيول خنزير. وبسبب غضبه من الاستنكار المستمر، يقتل خوسيه رجلًا محليًا لأنه سخر من زواجه. وبمجرد تبرئته من جريمة القتل، يجمع هو وأورسولا أمتعتهما وينطلقان للبحث عن مكان للعيش بعيدًا عن نظرات الاستهزاء والسخرية. ومع ذلك، قبل أن يبدأ الزوجان رحلتهما، تذكّر والدة أورسولا ابنتها: «بغض النظر عن المكان الذي تركضين إليه، فلن تتمكني أبدًا من الهروب من القدر الحقيقي.»
واقعية سحرية
والرواية، بأي حال، ليست عصية على المعالجة البصرية، طالما أن الأحداث تدور في مكان واحد، وحكايتها تروى بالسرد الأفقي، ما يساعد على انتقال أجيال العائلة بشكل سلس. لكن المشكلة كانت فيما زرعه ماركيز في أذهاننا من خلال الرواية، من العلامات التي خلقها هو، بموجب واقعيته السحرية، التي أصبحت متاحة ومكررة، بفضل التقليد الذي أعتمده الكثير من الروائيين، وربما في جميع اللغات، بسبب الهالة الكبيرة للرواية. فالكثير من الأشياء غير المعقولة والمنطقية تحدث، طيران الكهنة والفتيات، رفض الموتى لموتهم، فقدان الذاكرة الجمعي، وزيارات الغجر، والسائل الذي يجعلك غير مرئي.. كل ذلك يحدث أمام الجميع ولا يثيرهم.
وإذا كانت الواقعية السحرية عصية على الشاشة، فإن المسلسل قد تعاطى معها بشكل جميل، حيث أصبحت الغرائبية في الرواية متماهية بشكل لا ادعاء فيه مع الحياة اليومية، حيث تتعايش بشكل غريب اليوتوبيا مع الديستوبيا، لخلق ماكوندو غنية مليئة بالغموض والجنس وخيبة الأمل.
فماكوندو في هذا العمل التلفزيوني هي مكان عميق وثري، قارب كثيرًا مع ما مترسب في ذهن المتلقي عندما قرأه في كلمات ماركيز عن هذه المدينة، فالأزياء رائعة، والديكورات صنعت بشكل مثير، والمؤثرات الخاصة ممتعة، عن الأشباح، ومرض الأرق الذي اجتاح المدينة، فكانت ماكوندو أكثر إقناعًا مما يتخيله المتلقي.