آمنة المحمداوي /
هل لك أن تتخيل صبيّة شقراء تقفز فوق اندهاشك المعاند بطرفها الناعس المتخثر بالنقاء وتحيلك بلقطة جانبية من شامتها وخصرها الميّاس بالفستان التفاحي الفاتح من ماركة “بوتشي” إلى جثة هامدة..؟
إنها مارلي ياسادة، الشامة الخرافية وضحكتها الشهية تقطران في الروح طفولة ويتماً، وكأنهما ظاهرتان دمعيتان لا تحدثان إلا مرة في سحب المجرّة..
كثيراً ما سألتكِ يا مارلي، هل تعلمين كم أوجعتِ قلوبنا حينما طار ثوبكِ الأبيض في محطة مترو هوليود فدوّخ الكون بهفهفاته؟ وكأنه لا يريد لنفسه كسر رقاب المشردين على رصيف البؤس اليومي، لذلك أنزلتِ طرفه المخملي بتدرج من الحواف ليظللهم رأفةً وحنيّة.
بل كأن القدر أراد لكِ أن تقفي خجلاً تحت مظلة التأريخ لحظة طيران الفستان ليصنع من عود خصرك الميّاس خلوداً أبدياً تحت عنوان “لحظة مارلين مونرو” التي طار معها العالم بأسره سعيداً وشبقاً، إلا أنتِ، فقد كنت تتألمين بعزلةٍ مميتة يا (منيكان) الثوب الأبيض الذي تحول الى أشهر فساتين العالم إلى جانب فستان زفاف الأميرة ديانا والفستان الأسود لأودري هيبورن في فيلم Breakfast at Tiffany’s.
وأنا أعدد على أصابعي النادرين جداً في تنقيب معادن الألم وتجفيفها، كم بودي الصراخ في وجه هذا العالم غاضبة، كيف لم تروا مارلين البائسة؟
بئساً لكم يا لصوص الباباراتزي وجيوش الفوتوغرافيين القتلة، ثمة حزن غائر مُرعب يدفن مخالبه في وجه المحّارة، من منكم رآه؟! من منكم لمح اختلاط الدمع بالقطرات تحت المطر؟ قطعاً لا أحد منكم وضع نفسه مكان المطعونة بأمٍ قذفتْ بها إلى قمامة النسيان والتقط لكلتيهما صورة، هل ثمة صحافي متطفل كتب ولو لمرة واحدة وجع الكلمات التي كانت تتدرب على ترديدها طفلة ملجأ لقيطة تتأتئ لتجاوز التلعثم: “تحياتي لكِ أيتها الروح السعيدة، أنت الطائر الذي لم يكن موجوداً أبداً”..
آه يا حلبة كولومبوس البوليسية البشعة، الباحثة على مر الزمان عن أنثى دامغة الإثارة والإغواء لثرمها بآلةُ الزيف السينمائي والحماقة الأمريكية المنشغلة حدّ الجنون بصناعة دمية آدمية تبطش بخصومها.
أنتِ الآن بعيدة يا مارلي، لكن ليتكِ تعرفين يا دمية الحزن الآدمي، كم كان مؤذياً حدّ اللعنة حزن الجملة العظيمة التي قرأتها في مذكراتك، ولن تفلح لغات الكون بأسره من توصيف الفزع: “كان بإمكاني أن أستشعر النقص بموهبتي كما لو كانت ملابس رخيصة أرتديها بداخلي، لكن يا إلهي كم أردت أن أتعلم، أن أتطور، أن أتغير..”
وأكثر ما أفزعني واستشعرته في وجعك أيتها الشقراء الثرية المنفصمة أن يبقي اسمك الحقيقي الذي كنت تهربين منه ثأراً من أيام الفقر، بقيت “نورما جين” صبيّة حيّة ومضادة وملاصقة لمارلي الأيقونة، لم تعرف لها أباً ولا أمّاً حنوناً، ولم يُرَبِّتْ على كتفها أحد باستثناء الرجل الوحيد الذي كتب اسمه في شهادة مولدها على أنه أبوها، وهو أحد عشاق أمِّها، فلا غرابة أمام كل هذا القهر المضمر أن تخرجي من المحنة بجنون ناعم على شكل اضطراب ثنائي القطب، وحتى الآن أتذكر كم هو قاس ما صرختِ به يوماً: “يغمرني شعور دوماً كما لو أني كنت شخصين، أحدهما نورما جين ابنة المَيْتم التي لا تنتمي إلى أحد، والأخرى شخص لم أكن لأعرف اسمه”.
يا إلهي، كيف تجلس مارلي كئيبة مثل جزيرة عزلاء ومُرّ الليالي يطحن روح أجمل امرأة في الكون، المُتربعة على قمة المجد، أحياناً في لحظات الانهيار النفسي تعترف بأنها لم تحب أياً من أزواجها الثلاثة جيم دوجرتي وجوتي هايد وجود يبمابيوم، والرجل الوحيد الذي أحبته هو الكاتب المسرحي الأميركي آرثر ميلر، لكن الزواج-كما تقول- يفسد الحب ويحرقه، تخيلوا، حتى لحظة الفرح الوحيدة التي تسربت بالصدفة من محميّة كولومبوس البشعة، لوثها تُجار البندقية المثقفة وكتبوا ساخرين بلآمةٍ من النجمة التي فكرت للحظة باستعادة أنوثتها الخام مع آرثر ميلر الذي غدر بها هو الآخر ووصفها بالوحش النرجسي، وهو يعرف جيداً أنها الوديعة المولعة بقراءة برناردشو وهمنغواي وتولستوي ومارك توين، ولم تكن تفارقها موسيقى بيتهوقن وتونات موزارت.
مارلي، كيف تدحرج وجهك الصبوح في وادي الظلمات، من أفلت يدكِ الى هاوية الموت البطيء، المرأة الملغّزة لم تعد تنبت ضحكتها إلا من أحراش ألمٍ مساوٍ لسنوات عمرها القليلة، حاولت قدر الإمكان أن تفرد ضحكتها المغشوشة بوجهِ الجميعِ لتخوض النزال الأخير مع الرئيس جون كينيدي، عشيقها الذي أحبته وتمنت أن تكون بجواره زمرّدة العرش، فأوصلها فراقه حدّ الموت منتحرة، او منحورة، لا فرق، وآخر قصاصة قهر عاشتها الفاتنة الحزينة ولم تظفر حتى بتوثيق غموضها في المذكرات:
“ليلة أمس لم يغمض لي جفن، وأحياناً أتساءل لِم وجد وقت الليل، فهو يكاد ألا يكون موجوداً عندي، بل يبدو الوقت كله نهاراً مروعاً طويلاً”..