مالينا.. شعرية الصورة السينمائية

حسن جوان /

ما الذي يجعل بعض التجارب السينمائية العظيمة تتصف بالشعرية بالمعنى السحري وليس المعنى الأدبي المعتاد؟ ربما لأن سلطة الحواس تفرض هيمنتها ونشوتها الغامرة ولا تدع لنا فرصة للإفلات من تتابع اللون والحدث الصورة الساحرة، حتى لو كان المحتوى الفعلي المجرد للحدث دراماتيكياً أو قاسياً، لكن سحر المشهد وشحناته العاطفية تكون ذات مفعول أكثر تأثيراً وتنويماً. يحدث ذلك تماماً في فيلم “مالينا”..
البناء الفني للمشهد
منذ إنتاجه في عام (2000) شوهد هذا الفيلم بالشهية نفسها ملايين المرات، وكانت مشاهده ولقطاته قد بُنيت فنياً بطريقة متقنة، كثيراً ما راعت الأطر والمعايير الكلاسيكية المؤثرة لأشهر اللوحات الفنية. هذا الإدراك في التوزيع اللوني والإنشاء وهذا التكرار الممتع في المشاهدة كانا مشحونين بعاطفة وايروتيكيات موحية على الدوام، وكانا سببين في شدّ أوتار التلقي على مدى دقائقه الـ(109). يعي المتخصص في صناعة اللقطة عبر هذا الفيلم الذي كتبه وأخرجه جيوزيبي تورنتوري أن مصوره لاجوس كوتا قد أدرك أن قوة تأثير المنظور اللوني والخطي والتدرجات اللونية لمساقط الشمس والظلال الخافتة المتموجة على جسد بطلته الفاتنة مونيكا بيلوتشي ستحدث تأثيراً مغناطيسياً هائلاً وهي تقطع الطريق الحجري وسط حشد من الرجال والنساء الذين تتبعثر نظراتهم بين الرغبة الجامحة والغيرة والرغبة بالانتقام، بينما يقف طرف آخر وسط الساحة وهو صبي عاشق يفصل المشهد بنظرته الولهى، وهو يمسك بمقود دراجته التي أصبحت وسيلته الوحيدة في مطاردة فتنتها في حارات صقلية الحجرية التي يتقن خطوطها الافعوانية القديمة.

شعرية الصورة
هذه المشاهد الباعثة على الافتتان المستمر، تجعل من الاستزادة هدفاً بحد ذاته، يعضدها خيط رومانسي مشوب بنوع من كوميديا مراهق رفقة أصحابه يمثل الحب البريء المنعزل داخلياً تحت وطأة شعور سحيق بالعشق وبالاختلاف، ناهيك عن رغبة أكثر نقاءً بالحماية تجلت في مقاطع الفيلم الأخيرة لدى عودة الزوج المعاق الذي غيَّبته الحرب في مجاهل افريقيا ليبحث عن زوجته مالينا، إذ سخر الناس منه وأنكروا أي معرفة بمكانها، حتى تقدم فاعل الخير الصبي المجهول العاشق – الذي أدى دوره جوزيبي سيلفارو – ليدس في جيبه ورقة كتب فيها عنوان الفاتنة المطرودة والمعنَّفة.

دراماتيكية القصة
ماذا لو أنيط دور البطلة في هذا الفيلم بممثلة أقل فتنة من بيلوتشي؟ عندها بلا شك سيخفت بريق الفيلم وقصته التي تستند الى مرحلة شاقة من حياة امرأة في جزيرة صقلية الإيطالية.
صورت أغلب مشاهد الفيلم في سرقوسة المغربية، ذات الطابع المتحفظ وقتذاك إبان الحرب العالمية الثانية، وبفعل غياب الزوج ووصول أنباء عن مقتله في شمال أفريقيا، كل هذه الظروف جعلت من هذه الشابة الوحيدة محط أطماع الرجال من حولها وخضعت مراراً للمساومة الجسدية والابتزاز حتى انتهى بها الأمر الى أن تصبح “بائعة هوى” بعد كثير من اليأس والإفلاس، وهكذا انتهى بها الامر الى ممارسة الهوى مع بعض الضباط الألمان، ما يجعل نساء القرية ورجالها يضمرون لها العداء أكثر وينتظرون الفرصة التي أتت لاحقاً بعد سقوط الفاشية، إذ خضعت لهجمة دموية نالت منها ومزقت وجهها وثيابها في احتفال جماعي وسط الساحة العامة، ما حدا بها بعد ذلك الى الهرب ومغادرة المدينة، الى أن عاد زوجها مبتور الذراع بعد مدة طويلة ليعيد لها الاعتبار مرة أخرى.

الرهان الجمالي
قليلة هي النماذج السينمائية التي راهنت على التأثير الجمالي لمشاهدها وأبطالها حتى هذه الدرجة، وحققت نجاحاً باهراً ما يزال تأثيره سارياً بعد عقدين من الزمن. وبالرغم من أن الفيلم حصد الجائزة الكبرى في مهرجان كابورغ بعد عام واحد على عرضه، الا أن النقلة النوعية لمونيكا بيلوتشي وبقية فريق الفيلم شكلت منعطفاً كبيراً في حياتهم الفنية. وأدى هذا التأثير الى تحول بيلوشي بدورها الى أيقونة دائمة لتكامل الجمال الاثنوي، كما أدى سيناريو الفيلم الى إحداث تأثيرات امتدت حتى الى السينما العربية بعد سنوات من إنتاجه وترويجه عبر استخدام بدائل مماثلة في صناعة قصة موازية تتمثل في امرأة بالغة الجمال مثل هيفاء وهبي وتوظيف ثنائية مماثلة لعشق الصبي في تجربة سينمائية عربية صدرت تحت عنوان “حلاوة روح”.