كريم راهي/
بنظارتين سميكتين، تخفيان خلفهما عينين مملوءتين بالمباهج، وبابتسامة عريضة تنّم عن اعتداد بالنفس ورضى عنها، بدا لي (محمد مسير) في صورة التقطت له في قاعة الفنون بدولة الكويت، وهو يقف أمام إحدى لوحاته في المعرض التشكيلي المشترك للفن العراقي الحديث، الذي حمل عنوان (فيض عراقي). وقد ظهر في قسم من الصورة، جزء من عجلة دراجة هوائية في أحدى لوحاته، في ركن قصيّ منها، ملاك يرتدي ملابس حمراء دون أكمام، وهو يحاول التحليق بدراجته.
بينما بدت في كادر الصورة الفوتوغرافية خلفه، لوحتان أخريتان له بقياسين مختلفين لدراجات أخرى ومجنّحين آخرين.
دراجات
ربما كانت عجلات الدراجات الهوائية التي يقودها آدميّون مجنّحون، هي السمة الغالبة التي صارت تطبع أعمال الفنان العراقي (محمد مسير) الأخيرة. فمنذ احتفائه بيوبيل النصف قرن من الحياة قبل ثلاثة أعوام، وهو يحيل كلّ ما تحت يديه من مواد صالحة للرسم، إلى دراجات. يقول محمد في زمن مضى، عن لحظته تلك، وبنقاء: “اللحظة الصادقة جداً هي لحظة الفنان ولوحته أثناء ممارسة فعل الرسم. تلك اللحظة التي يعتزل فيها الفنان هذا العالم القبيح”.
في عمله الأخير الذي شدّني إليه، ضمن مشاركته في معرض (12+1) في قاعة جمعية الفنانين التشكيليين، ثمّة جداريّة بانوراميّة مليئة بالأقدام الكبيرة والدراجات بارتفاع 160 سم، بينما احتل عُرضها ثمانية أمتار، هذه الملحمة حازت على جذب انتباه كل من حضروا هذا المعرض. ولربما كانت لمشاركته قبل عامين، مديراً فنيّاً في فيلم (صمت الراعي)، الذي أخرجه العراقي رعد مشتت، الأثر الكبير في توجهه لرسم مثل بانوراما الوجع العراقي هذه، بطريقة تشي بتأثر واضح بالكادر السينمائي.
مشهد بانورامي
يلاحظ الناقد الفني (أمجد ياسين) ذلك فيقول: “حملت لوحة (بغداد حبيبتي) بصمات تأثره في السينما، إذ قدم لنا مشهدا بانوراميا أشبه بكادر سينمائي (فريم) له بداية ووسط ونهاية”.
وينقل عن محمد مسير قوله: “في هذا العمل كانت بغداد هي دجلة والنساء الجميلات والأطفال والالوان وليس بغداد الحرب والدمار ودخان الانفجارات القاتم”.
وحين يُسئل مسير عن سبب تحشيده لكل ذلك العدد من الملائكة بمساقطها المختلفة يجيب: “تسحرني بغداد وبناتها الجميلات.. إني أراها وبناتها كالملائكة”.
-لكن لماذا الدراجات يا محمّد؟
سألتهُ حين التقيتهُ بلا موعد، هكذا، على قارعة الطريق.
قال:في طفولتي كنتُ أعجب من ركوب أبي على دراجته من دون أن يسقط منها، عرفت فيما بعد أن ذلك كان بسبب الحركة،
الموازنة، البعد الرابع.. أعني حركته داخل الزمن.
الحركة تعني الحياة
ثم يعود ليبرّر سعيه المحموم بالحركة الدؤوب في مصوّراته: “السكون يعني الموت.. والحركه تعني الحياة والتحليق يعني السمو.. ربما أكون حالما، لكني أرى الجانب الآخر من بغداد، الجانب المشرق الجميل.. دجلتها وشوارعها وذكرياتي بها وأطفالها ونساؤها الجميلات.. بالرغم من أن الموت يملأ شوارعها، ودخان الإنفجارات يملأ سماءها…إنّي أرى بغداد تقوم من رمادها تسابق الزمن برجلها الضخمة التي تعني الحكمة والإرادة والإيمان.. ثم تتحول الى ملائك تسمو بأجنحتها”.
فيما يعقّب الناقد والتشكيلي (الدكتور ضرغام كبة) على كلام زميله الفنان مسير بالقول: “الحركة ذات طابع استمرار في العمل، نسبة القدم في الفكر الرئيس تدل على حجم الثبوت والقاعدة الرصينة التي تطلق تلك الحركة، أما الأجنحة ففيها رأيان؛ أولا هو التزاحم لرؤية الملكوت الأعلى، والثاني هو طبعا رأيك فيها.. وهو المهم.”
وهو يعي أن الفنان لا ينفرد بخلق عمله الفنيّ لوحده، بل هو يترك فسحة للمتلقي على الطرف الآخر لأن يشاركه العمل بصيغة تأويل تفاعليّة، محاولاً في ذلك إشراك المتلقي ببهجة الخلق الفني.
الموديل الغائب الحاضر
مسير لا يخطط للوحاته في الغالب، هو يقف إزاء القماشة الخام، يتأمّل فيها قليلاً، ثمّ يشرع بغمس الفرشاة والضرب على الكانفاس، في مسعى لاكتشاف ماالذي ستمليه عليه اللحظة الآنية، مرّة يرسم مقاتلين عراقيين متعبين وسط الظلمة والدخان، لكنّهم يلوّحون بعلائم النصر، ومرّة يجد أنه فرغ من تشكيل يضم كرسيّاً شاغراً تنبسط تحته سجّادة حمراء، وفي أخرى يجد أنه أكمل رسمة عن صديقه الكاتب الراحل (خضير ميري) ممدّداً على فراش موته، وفاءً لذكرى غيابه الأبديّ، وفي غيرها يجد أنه رسم لوحة بورتريت كبيرة، يكتشف بعد الفراغ منها أنها صورة لوجه صديقه الشاعر (علي وجيه):
-صدقني لم أكن متقصّداً رسمه، ولم يجل ببالي أنني رسمت بورتريها لشخص أعرفه، لكنّه فاجأني باتصال هاتفي بعد أن شاهد اللوحة معروضة على صفحة أعمالي في النت، عارضاً عليّ اقتناءها!!
لكنّ عليّاً، الموديل الغائب الحاضر، يصرّ على أن الرسمة له، ويجهد في أن يطلعني عليها لأشاركه اعتقاده، فبعد مراسيم تسلم وتسليم جرت أمامي في مرآب قرب المسرح الوطني، يفك (علي وجيه) طيّتها لأتفاجأ برؤية وجهه -على غير ما أعتقد- بملامح ملاك، لا بل حتّى بهيئة ملاك حقيقي، بجناحين بيضاوين لكن بأردية حمر، ملاك يغفو على مقود دراجته، فيما بغداد الورد والدخان، تشغل ما تبقّى من الكادر.