محسن ابراهيم/
بالأمس كان المسرح في العراق ثقافة وطنية احترفها الفنانون تمثيلاً وإخراجاً، وشغف بها المتفرجون احتراماً وتقديراً. نشأ المسرح في أزقة المدينة وعلت أصوات الممثلين في أرجاء خشباته، ومع هذه الأصوات علا نجم المسرح وسطعت أنواره بين الاحترافية الفنية والتكوين الأكاديمي الإبداعي.
قاعات مسرحية ونهضة ثقافية شهدتها مرحلة الخمسينات، وأخذت تتصاعد عبر الستينات والسبعينات. ورغم معاداة السلطة لذلك النشاط آنذاك محاولة إيقاف كل فعالية ترتاب بها، إلا أن المسرحيين العراقيين أصروا على تحقيق وجودهم وإثبات ذواتهم الإبداعية مستعينين بكل الأدوات والوسائل التعبيرية في الحفاظ على استمرارية العلاقة بين الممثلين والجمهور.
ثورة ثقافية
عودة الفنانين في بداية السبعينات بعد إكمالهم الدراسة الأكاديمية خارج العراق وانخراطهم في السلك التدريسي في معهد وأكاديمية الفنون الجميلة، شكلت ثورة ثقافية وفنية أسهمت في إثراء الحركة الفنية والمسرحية وازدهارها في تلك الفترة, ما دفع إلى تصاعد النشاط المسرحي وازدياد عدد الفرق المسرحية, مع ارتفاع نسبة مرتادي المسرح وتنوع ثقافاتهم وميولهم الفنية، ماجعل تلك الفرق في بحث دائم عن قاعات جديدة لتقديم عروضهم المسرحية. ومن تلك الفرق فرقة “المسرح الشعبي” التي عرفت أيضاً باسم فرقة “مسرح الستين كرسي” التي كان يترأسها الفنان الكبير جعفر السعدي.
انبثقت فكرة التأسيس في بداية السبعينات من خلال فكرة طرحها الفنان (أديب القليه جي). ارتكزت الفكرة على توسيع الشقة المؤجرة من قبل الفرقة في الطابق الثالث من (عمارة الإخوان) في شارع السعدون وجعلها مسرحاً صغيراً، لاقت الفكرة استحسان أعضاء الفرقة: جعفر السعدي، وداد سالم، نضال عبد الكريم، زهير البياتي وآخرون, لتصبح تلك الشقة فيمابعد المقر الرئيس للفرقة ومكاناً لممارسة التدريبات في المسرح الذي لم يكن يتسع إلا لستين كرسياً مع استغلال المساحة المتبقية لتمثل خشبة للمسرح، ومن هنا جاءت تسمية “مسرح الستين كرسي”.
مختبر مسرحي
قُدمت على هذا المسرح عروض مسرحية عديدة منها مسرحية “الدب” تأليف تشيخوف وإخراج جعفر السعدي، ومسرحية “الصغير الكبير” من إعداد فراس عبد المجيد وإخراج أديب القليه جي، ومسرحية “البداية” تأليف سعدون العبيدي وإخراج زهير البياتي، ومسرحية “برج الحمام” تأليف عدنان شلاش وإخراج صبحي الخزعلي، ومسرحية “قارب في غابة” تأليف ميخائيل خايتوف وإخراج عزيز خيون، ومسرحية “المماشي الترابية” تأليف ميخائيل خايتوف وإخراج عادل كوركيس، ومسرحية “السياب” تأليف وإخراج عقيل مهدي، وغيرها من المسرحيات.
تجربة مسرح الستين كرسي كانت بمثابة مختبر مسرحي تخرّج من على خشبته الكثير من المبدعين الذين أصبحوا فيما بعد أسماء مسرحية كبيرة على مستوى العراق والوطن العربي أمثال الدكتور عوني كرومي الذي غادر إلى ألمانيا وعاد ليمارس عمله التدريسي في كلية الفنون الجميلة في أواخر السبعينات. اهتم كرومي بالمختبر المسرحي ورأى أن المختبر المسرحي تجربة لا تخضع للتقاليد والعادات الأكاديمية, بل هو بحث دائم ووعي كامل بمعرفة أدوات الفنان الذاتية والجسدية والذهنية والصوتية والفكرية, وكان “مسرح الستين كرسي” تطبيقاً عملياً لتجربة عوني كرومي.
محاربة القيم
العروض المسرحية الرصينة التي قُدمت من قِبل الفرق المسرحية، وخاصة في عقدي الستينات والسبعينات، أفرزت قيماً فكرية وعمّقت الذائقة الجمالية، وكانت لسان حال المشاهد لما حملته من أفكار نابعة من هموم المواطن والوطن. كانت خشية السلطة آنذاك من هذه العروض المسرحية كبيرة، وكانت لجنة فحص النصوص تدقق كثيراً في النصوص المسرحية، وكان هاجسها الأول هو أن تلك الفرق تبث الفكر اليساري. بعد هذا النجاح الكبير والعروض التي كانت تحمل في طياتها قيماً فكرية وجمالية, أصبح المسرح مخيفاً بالنسبة للسلطة الحاكمة آنذاك, وباتت تحسب له ألف حساب، ولم تكن تريد أن تسمح له بالانتشار في الأوساط الثقافية والجماهيرية, فبدأت المضايقات ضدّ مسرح “الستين كرسي” والفرقة وأعضائها, وهاجر من العراق غالبية الممثلين والممثلات والعاملين فيه وغالبية الذين ساهموا في تأسيسه في الثمانينات، لتنتهي واحدة من أجمل وأهم التجارب المسرحية في العراق وليصبح مسرح “الستين كرسي” في طيّ النسيان.