#خليك_بالبيت
محسن إبراهيم /
الشوارع والناس وأساليب عيشهم وعملهم، تلك المناظر التي كان ناظم رمزي يمتلك إزاءها شهية نهمة وغير معتادة في التقاط الصور، اللحظة الحاسمة في عين الرائي تلك اللحظة التي اشتهر بها بدقة تكويناته داخل اللقطة، يختار الزاوية المستحيلة ويكسر قاعدة أن الصورة حركة جامدة. سعى لتصوير الحركة بكل أشكالها ليجعل منها لقطة حية، حركة الأيادي وهي تدق الحديد على السندان، عامل ومزارع وكسبة وأطفال وشيوخ ونساء، كل هؤلاء هم أبطال لقطاته النابضة بالحياة.
لم تغر رمزي جماليات أخرى بقدر ذهاب عدسة كاميرته إلى ما حفر الزمن على أيادي الحرفيين وخشونة الأصابع من فرط العمل، هي رحلة نحو خلجات النفس، وتحديداً إلى البسطاء من الناس حيث الحياة اليومية لها منطقها الخاص، وحيث الحركة في تماهٍ مع حركة الماء ورفيف السعف في أعالي النخل. عدّه بعض المعنيين بالفوتوغراف أسطورة في عالم التصوير، دلالة اللقطة لدى رمزي لا يمنحنا إياها أي فن آخر، الصورة فقط هي من تثير الفكر وتمنحنا حق التجوال في عوالم أخرى ابتدعها ناظم رمزي، وهو أول مصور عراقي نقل الفوتوغراف من مجرد توثيق جمالي إلى فن تعبيري.
الإبداع بصمت
في خمسينيات القرن المنصرم كانت تتألق في سماء الفن العراقي مجموعة من الأسماء في شتى الفروع الإنسانية، أرسوا دعائم الفن العراقي المعاصر وأغنوه بروح عصرية جديدة وبصياغة فيها كثير من روح الابتكار الخلاق، يبشر بولادة مرحلة جديدة تواكب التحولات في المجتمع العراقي وتوثّق في أعمالهم ونتاجهم الفكري والفني ملامح تلك الفترة الصاخبة.
وناظم رمزي هو خلاصة ثقافة موسوعية في شتى الفنون البصرية، فهو المصور الفوتوغرافي والرسام ذو الحس المرهف الذي يبدع بصمت وهدوء، وهو رسام الكاريكاتير ومؤسّس أكبر دار عصرية للطباعة في العراق والباحث الدؤوب عن الجمال في كل ما مارسه من فنون.
ويذكر رمزي في كتابه من الذاكرة (أنّه مارس التصوير كهواية بكاميرا (بوكس) بدائية، في العام 1946 في مناسبة ما عدت أذكرها ولكن ما أذكره هو المتعة الكبيرة التي وجدتها في الصور الاولى. كنت حريصاً على تصوير وجوه وأشكال الناس الذين أحببتهم طوال حياتي، وتصوير ذلك الحس الإنساني والشعري الغامض الذي يتصل بطريقة عيشهم وعملهم).عمل ناظم رمزي مصوراً عندما كان شاباً وركّز على محنة الإنسان في كل المعاني والأوجه، وفي عام 1948 عمل مصوراً سينمائياً في الفيلم العراقي المصري المشترك (عليا وعصام) وظلت صور رمزي تحمل طابعاً سياسياً أكثر منه اجتماعياً، واستطاع أن يوثّق كثيراً من المشاهد والكوارث الحية والفيضانات وما تخلّفه من دمار.
أرّخ حياة الكادحين وأضفى على صورهم شيئاً من السحر والفن والجاذبية، واشتهر ناظم رمزي بتكنيك الأسود والأبيض في صوره الفوتوغرافية التي تمثل جزءاً مهماً من ذاكرة العراق المعاصرة عبر سنوات طويلة ومحطات كثيرة استطاع أن يوثّق فيها أزمنة وحكايات وملامح، يقول رمزي في أحد مؤلفاته: (لا أدّعي أنني وثّقت الحالة، بشكل مقبول، لكوني بدأت التصوير كهواية لا غير إلى حين أرشدني، كل من الصديق الفنان جواد سليم والفنان فائق حسن وآخرون من كبار الفنانين إلى هذا الكم من الصور، التي تنبغي طباعتها وعرضها في معارض، ومتابعة التصوير بشكل منظم وهادف). ويضيف في موضع آخر من كتابه: (وُلدت لديّ منذ الطفولة الرغبة في معايشة الناس والتسلية مع أبنائهم، في اللعب، وصيد طيور الكمبر والقطا والدراج، وحتى الأرانب، ناهيك عن تناول الخبز الحار الخارج تواً من التنور، الذي يتألف من الحنطة والشعير، مصحوباً بالحليب الطازج وقليلاً من التمر، كانت هذه الوجبة، وأنا أتذكرها الآن، تعادل، بل تفوق أغنى الموائد وأشهرها).
العراق الأرض والناس
إلى جانب جواد سليم، وفائق حسن، وفاضل عباس، وعدد آخر من رواد فن التشكيل العراقي، شارك ناظم رمزي في معرض الفن العراقي المعاصر الذي أقيم في العاصمة اللبنانية بيروت عام 1957، في أولى تجاربه الفنية، وبعد ذلك بعام أقام معرضه الشخصي للتصوير الفوتوغرافي 1958 في بغداد، وفي عام 1970 أقام معرضاً شخصياً لفن الكاريكاتير، وبعد عامين شارك في معرض للملصقات الجدارية، ثم أقام في المركز الثقافي العراقي بلندن معرضاً آخر للفوتوغراف في عام 1977. وإلى جانب هذا النشاط الفني، فقد عمل مديراً فنياً لمجلة (فنون عربية) برفقة الأستاذ جبرا إبراهيم جبرا الذي كان رئيساً للتحرير، والشاعر بلند الحيدري مديراً للتحرير، والتشكيلي الفنان ضياء العزاوي مديراً للتصميم وصدرت في أوائل ثمانينيات القرن الماضي عن دار واسط للنشر في المملكة المتحدة. أصدر كتباً عدة خاصة بالشأن التصويري، مثل (العراق.. الأرض والناس) و(من الذاكرة) وكتاب (العراق.. لقطات فوتوغرافية لبعض ملامح الحياة في القرن العشرين) و(جولتي مع الكاميرا) . وبعد مسيرة فنية امتدت نصف قرن وبعيداً عن العراق الارض والناس ومع صدى الذكريات الموجعة، وفي مدينة يغلفها الضباب وما بين ظل وضوء، رحل الفوتوغرافي العراقي ناظم رمزي في العاصمة البريطانية لندن عن عمر ناهز 85 سنة.