#خليك_بالبيت
يوسف المحمداوي /
لا أنكر حمى القلق التي أصابتني وأنا أتوجّه صوب تلك الشقّة التي تقع وسط منطقة البياع، وكيف لا أقلق وأنا سأحاور من أشبعتنا سردياته الأدبية والمسرحية والتلفزيونية والإذاعية فطنة وحكمة وسحرا وفتنة.
نعم هو كذلك من رسخ في مخيلة المشاهد شخصيات الذئب والنسر وعيون المدينة “كمره ورجب”، “رحومي”، “رؤوف” وأسماء لا تعد ولا تحصى، مسرحياته، (الطوفان) التي كتبها وهو طالب، (المتنبي)، (نديمكم هذا المساء)، (ليس إلا)، و(عقدة حمار) و(الخيط) و(شعيط ومعيط وجرار الخيط) وغيرها من روائع سردياته، فمن أية رائعة أبدأ يا عادل كاظم؟ هكذا كان السؤال الذي يحاصرني وأنا أشارك شقيقه النحات نداء كاظم صعود السلم نحو شقته المتواضعة في البياع، التي كنت أظنّها إحدى الفلل التي يسكنها بعض الساسة على ضفاف دجلة وهذا ما يليق بمن جعل شوارع بغداد بل العراق تخلو من المارة أثناء عرض مسلسلاته التلفازية، ولكن ما واسى القلب على تواضع شقّته هو جلوسي أمام قمة من التواضع تعلوها قمم معرفية وذكريات لرموز شامخة في عالم الفن والأدب.
رغم عدم قدرته على السير وتعكّزه على عكازين وأحيانا بكرسي متحرك لكنّه يتعكز على ذاكرة قل نظيرها رغم تجاوزه للعقد الثامن من العمر، وكانت مضيفتنا الوحيدة في البيت هي ابنته الرائعة زينب التي شاركته أعوام المرض والشيخوخة من غير كلل أو ملل، والمفارقة أن الزميل المصور خضير العتابي الذي رافقني في ذلك الحوار الثري بضيفه، كان من النوع الذي يتفنّن في التقاط الصور من زوايا متعددة، وهذا ما جعلنا نرهق السينارست الكبير بتغيير مكانه أكثر من مرّة، قبل وأثناء إجراء آخر حوار صحفي للراحل، بعد ما صافحته والبشاشة ملأت ذلك الوجه المتجهّم زال قلقي تماما بل وأصابني الغرور لكوني سأتبجح أمام زملاء المهنة بأنّي أجريت حوارا موسّعا مع النسر وحلقت معه في سماء المدينة، وركضت مع الذئب في شوارع بغداد، وسبحت وسط الطوفان، وثملت مع نديمكم هذا المساء، وتعلّقت بخيط مروءته ، وركبت مع سامي عبد الحميد في عربته، وتناولت الباقلاء من يد كمره، وضحكت كثيرا مع رجب، وصافحت رحومي، وبكيت لانتحار رؤوف، وحزنت على حال إبراهيم، وشبعت من ذلك الحوار إلى حدّ التخمة وعقلي يصيح هل من مزيد؟
مع كل هذا الابداع حين سألته يقول عنك الدكتور ياسر عبد الصاحب البراك إنّك (عرضحالجي بغداد) وإنك مغني الحي الذي أطربت الشعب، ووصفك بذاكرة الشعب، فماذا يقول عادل عن عادل؟
– أنا لست راضيا عن عادل كاظم، لكونه لم يستطع التواصل بشكل جدي و يمسك بتلابيب الدراما والمسرح، على الرغم من كوني حصلت على شهادات ومباركة من النقد الادبي لم ينلها غيري.
من أطرف ما جاء بالحوار هو ذكرياته عن الراحل إبراهيم حين سألته:
* قدمت مسرحيتك (الطوفان) وكنت طالبا للفنان جعفر السعدي، وبعدها أخبرك أنّها ضاعت وأنت لا تمتلك نسخة غيرها، كيف كان شعورك؟
– الحقيقة انها أصبحت أشبه بالطرفة، أنا بالفعل أعطيت النص الوحيد لديّ من مسرحية الطوفان للفنان جعفر السعدي، وكنت أسأله يوميا عنه وجوابه اليومي بأنه لم يطلع عليه، لكن عنصر المفاجأة هو دخول المرحوم المخرج الكبير إبراهيم جلال لصفنا في حينها كنت في الصف الثاني بالاكاديمية وأنا لا أعرفه وهو لا يعرفني أيضا، وكان الاستاذ جاسم العبودي يلقي علينا محاضرة في علم التشريح، وسأل إبراهيم جاسم (هل لديك طالب اسمه عادل داود) فردّ عليه: (كلا …لدي فقط عادل كاظم)، فقال: (هو ما أريد) وبالفعل نهضت وقلت له أنا عادل كاظم فقال: (ابني أنت كاتب مسرحية الطوفان) قلت له (نعم) وسألته من أين حصلت عليها؟ إنّها النسخة الوحيدة التي لدى جعفر السعدي، ضحك وقال لي: (سرقتها من على مكتبه وسأقوم بإخراجها)، فأجبته بخجل: أنا بودي أن يخرجها جعفر السعدي وفي ذلك الوقت كان السعدي مخرجا لمسرحية (يوليوس قيصر) وكنت من أشدّ المعجبين بإخراجه، فقال لي: (بابا هذا كلشي ميفتهم …عوفه …اني المخرج وأنت المساعد مالتي)، وبالفعل ذهبت للمرحوم جعفر السعدي وقلت له الحكاية فضحك وقال لي: (أي بابا كلنه منفتهم بس إبراهيم …هو اليفتهم خل يخرجها)، وشتمه حينها.
نعم سكن الطوفان وحزنت حكايات المدن الثلاث وحلّق نسر عادل كاظم خارج أسوار المدينة ليوارى الثرى في مقبرة العائلة بمدينة كربلاء المقدسة في الثاني من آب 2020.
رحمك الله يا سيدي وطيّب الله ثراك وأسكنك فسيح الجنان.