وسام خصّاف.. راهــــبٌ فـــــي محـــراب الساكسفون

عادل مكي/
الحديث عن سحر “الساكسفون” في وسط “المزيكا” المصرية الدسمة، هو حديث عن سحر الحياة ولغز تموجاتها المموسقة التي لا يعزفها بطريقة تخطف القلب إلّا المجانين. فقد عرف عن العازفين المصريين التفرد الواضح في الساحة الغنائية العربية، ولهم الحظوة الكبرى في كل محافل الإبداع. وليس من السهل مجاراتهم..
لاشك في أن الفرق الموسيقية التي عزفت لأم كلثوم وعبد الحليم حافظ، ضمت أساتذة ومدرسين أكفاء للموسيقى بشتى صنوفها، ولديهم تحسس كبير من العازف العربي.فقد عانى الفنان كاظم الساهر من ذلك الأمر كثيراً، ولاسيما في منتصف بداياته حينما جلب فرقته الموسيقية العراقية الى القاهرة لمصاحبته في العزف معه، إذ واجه الرفض معللين ذلك بأن مصر لديها آلاف العازفين المهرة الذين هم بحاجة للاسترزاق، معه او مع غيره، ثم رضخوا للأمر أخيراً بعدما صار الساهر نجماً كبيراً، ولكن على مضض، إذ أثبت العازف العراقي الموسيقي تفرده الواضح والكبير في العزف والإجادة التامة وقراءة النوتة الموسيقية بكل سهولة. وهذا ما نراه في معظم الستديوهات الخليجية التي استقطبت العشرات من العازفين المهرة الذين عزفوا لغالبية نجوم الغناء الخليجي والعربي. لكن ما يثير الدهشة والإعجاب أن يأتي موسيقي عراقي شاب فيقتحم أسوار أعتى الفرق الموسيقية المصرية ليجلس في الصف الأمامي ويحتل مكان أمهر العازفين المصريين، ويجلس على كرسي (سمير سرور)، العازف المخضرم لآلة الساكسفون، الذي ظل لعشرات السنين مُثيراً للانتباه والفخر والتباهي. لكن كيف استطاع ذلك الفتى العراقي أن يلج هذا الفن؟
عندما تقول إنه الفنان وسام خصاف عازف الساكسفون المعروف، ستضع هنا ألف علامة وعلامة على تاريخ أسرة ذلك الموهوب، التي دعمته وأوصلته الى تلك المكانة الكبيرة، لأنها ببساطة عائلة (بيت خصاف)، فهو سليل تلك العائلة التي عشقت تلك الآلة الغربية.. من عرابها الفنان والأستاذ الكبير علي خصاف. علماً أن وساماً، المولود في بغداد، لم يكتف بأبوة أبيه علي خصاف الموسيقية، عازف (كلارنيت) ومساعد (كوندكتر) في الأوركسترا السمفونية العراقية، وإنما هناك أيضاً عمه مهدي خصاف، عازف (ترومبيت) و(فرنج هورن) فيها، وكذلك عمه جعفر خصاف، عازف ساكسفون وعازف (أوبوا) في نفس الفرقة، وأيضاً ابن عمه عمار خصاف عازف ترومبيت فيها، وابن عمه علي مهدي خصاف، عازف (فرنج هورن) فيها، بالإضافة الى ابن عمه ابراهيم خصاف عازف ترومبيت، وأخوه هشام خصاف، متدرب على آله (تشيلو) في الأوركسترا السمفونية العراقية.
المعروف عند أهل الموسيقى أن آلة الساكسفون، باعتبارها آلة غربية، لا يوجد فيها إطلاقا أي ربع تون، علماً بأن ما يميز كل مقام من مقامات الموسيقي الشرقية أو حتى سلالم الموسيقي الغربية هو وجود أبعاد ومسافات صوتية معينة يتكون منها المقام، وهذه الأبعاد النغمية هي ما تميز مقاماً عن مقام وسلماً موسيقياً عن آخر، وأهم ما يميز الموسيقي الشرقية هو وجود ما يعرف بالربع تون أو الربع درجة صوتية في تكوين المقامات، وهى مستخدمة بكثرة في العديد من المقامات الشرقية التي تحوى الربع تون في تكوينها، مثل عائلة مقامات الراست والبياتى والصبا والسيكاه. لذلك استطاع وسام خصاف فك أسرار تلك الآلة الغربية وأن يطوعها كيفما يشاء، مضيفاً لها من روحه وروحيته، ما مكنه من أن يخرج منها أنغاماً شرقية بحتة يصعب على الكثيرين الدخول إليها، دون أن يغير من تركيب وتصنيع تلك الآلة، بل أبقاها كما هي، لكنه بفراسته الموسيقية البحتة طوعها، فأطاعته كيفما يشاء وخصوصا عندما يستخرج منها ما يشاء من أنغام مموسقة في طابعها الشرقي البحت، التي تحتوي على الربع تون الذي يضيف نكهة مثيرة ولمسة عالية من الألم والوجع للحس الشرقي الجميل بروح مترعة بالجمال.
خصاف، الموهوب بالفطرة الجمالية، أراد أن يعيد اختراع أبدية تامة للجمال ما بين آلة الساكسفون الغربية والمقامات الشرقية، فقدم العديد من الحفلات الفنية إلى جانب نجوم الغناء العربي، وأصبح ماركة مسجلة، إذ لا يخلو حفل من وجوده لتميّزه بامتلاك التكامل بين التقنية والإحساس العالي والشخصية الهادئة المتزنة، علماً بأنه بدأ مشواره الفني سنه 1986 حين كان عمره 8 سنوات مع والده الفنان علي خصاف عازف الكلارنيت الشهير في فرقة دار الفنون للفنون الشعبية، مع الأستاذ يحيى الجابري في فرقة كورال، ثم التحق بمدرسة الموسيقى العسكرية سنه 1992 واختص بالعزف على آلة الساكسفون وصقل موهبته على يد أمهر المدرسين، ومنهم عمه عازف الساكسفون جعفر خصاف، الذي تعلم منه أصول العزف على تلك الآلة، وتعلم من أبيه على خصاف النظريات الموسيقية بشكل عام، كما كان عمه وأبوه مدرسين في مدرسة الموسيقى العسكرية في نفس فترة التحاقه بالمدرسة. تخرج وسام في المدرسة الموسيقية العسكرية بعد 3 سنوات، وبعدها دخل معهد الفنون الجميلة في بغداد قسم الموسيقى، واختص في آلة البيانو سنة 1996 ومنها انطلق الى عالم الفن الشرقي وتعلم العزف على الكلارنيت والناي، بعدها بدأ السفر الى خارج العراق والمشاركة في المهرجانات الدولية، ومع أشهر المطربين، فشارك في مهرجان بابل في العراق، ومهرجان الدوحة في قطر، ومهرجان جرش ومهرجان الفحيص ومهرجان الزرقاء في الأردن، ومهرجان قرطاج في تونس، ومهرجان ليالي دبي في الإمارات، ومهرجان صلالة ومهرجان مسقط، ومهرجان ليالي هلا فبراير في الكويت، ومهرجان اللاذقية، ومهرجان تدمر في سوريا، وكان محط انظار جميع المطربين لأسلوبه الفريد في العزف على الساكسفون.
ولبراعته وحرفيته عزف خلف معظم الفنانين العرب والعراقيين، وممن شارك معهم في الحفلات: عبادي الجوهر وكاظم الساهر ومحمد عبده وراشد الماجد وماجد المهندس وصابر الرباعي ونوال وأنغام وآمال ماهر ونبيل شعيل وأنغام وعبد الله رويشد وأحلام ورابح صقر.. وغيرهم، بعد أن انضم الى الفرقة العربية بقيادة الموسيقار أمير عبد المجيد، إذ شارك معهم في أكثر الحفلات الموسيقية الكبيرة. لذلك صار وسام خصاف اسماً عربياً وعراقياً كبيراً، واحتل مكانة العازف المصري الراحل سمير سرور، الذي بكل جدارة يكن له الجميع الاحترام وحظي بإعجاب كل الموسيقيين العرب والعراقيين، وكذلك نجح وسام خصاف بامتياز هو الآخر ولفت انتباه الجميع لهذا البلد العظيم، منبع الإبداع والجمال والرقيّ، فكان سفيرا كبيراً وعدسة خلود عراقية تلتقط الجمال في كل مكان.