بغداد/ عادل مكي/
تفرد الموسيقار رياض السنباطي عن أقرانه بما وصف بالإعجاز اللحني المسبوك بعناية فائقة، فهو المتصوف حد الذهول بذلك الفن الكلاسيكي الذي ميزه عن غيره من الملحنين الكبار.
فقد نجح السنباطي في كتابة ألحان عربية شرقية خالصة مركبة على السلم الموسيقي الكلاسيكي الغربي، تنبض بالقوة والعظمة، وألق وسحر وجمال فذ، يحلق بك الى مديات جديدة لم تكن مألوفة على الأذن العربية. كان هذا الملحن الفذ أشبه بناسك في الفن، ما جعله يقبع في بيته وصومعته لا يختلط بأحد تقريباً، حتى عرف بأنه شخصية انعزالية وانطوائية؛ لأنه كان يفضل الاعتكاف في بيته؛ لتتسنى له كتابة الخواطر الموسيقية، وحين يأتيه الإلهام لم يكن يستقبل أي كائن، فهو دائم الاعتذار لضيوفه النادرين.
يروي بعض ضيوفه عن حالته عندما تأتيه جملة موسيقية، إذ كان يهرع فجأة الى غرفته ليسجل اللحن، بحيث ينسى نفسه وضيوفه، حتى أنه في الحفلات الشهرية لأم كلثوم التي تغني فيها ألحانه، كان يكتفي بسماعها من خلال الراديو، حابساً نفسه بين جدران منزله الذي خرجت منه أعذب الألحان.
الأطلال
حظيت أغنية (الأطلال)، التي طوع فيها السنباطي كل المقامات النغمية ليخرج لنا برائعته التي غنتها سيدة الغناء العربي أم كلثوم، بكونها الملحمة الغنائية التي صاغها حرفاً حرفاً وكلمة كلمة، ليجعلها أيقونة الألحان على مدى الدهر.
القصيدة كتبها إبراهيم ناجي على وزن الشعر الحر، بحر (الرمل)، واللحن من مقام (راحة الأرواح)، يبدأ لحن المقدمة بعزف حر من مقام (الرست) على درجة (الري)، أو مقام (الفرحناك) على درجة (السي)، ثم يربطه مباشرة مع (راحة الأرواح) الذي يليه على (سي) ثم ينتقل إلى مقام (أوج) ويستعمل فيه جنس (النهاوند) على (الري)، ويبدأ الإيقاع بعدها بالصعود مجدداً بصورة تدريجية في (راحة الأرواح) مع فرقة الكمان، ثم يأتي (صولو) قانون في مقامات (راحة الأرواح) ثم مقام (البيات – الدوكاه) ثم ينتقل إلى مقام (البيات – الشوري) لينتهي في مقام (العراقي) بعده التسليم للغناء.
راحة الأرواح
تبدأ أم كلثوم من (يا فؤادي) على مقام (راحة الأرواح)، ثم في جملة (وبريق يظمأ الساري له) يجري تغيير بسيط بالانتقال إلى مقام (أوج) مرة أخرى، ثم العودة الى (راحة الأرواح) في جملة (أين في عينيك ذياك البريق).
مقدمة موسيقية، فصعود الى أوج مقام (الكرد) على (الري) ثم الهبوط الى مقام (الصبا)، وهذه من الفقرات المحببة لأنها تلامس الروح بشجنها وحزنها، والغناء (يا حبيباً زرت يوما أيكه) حتى (والثواني جمرات)، يجري الانتقال من (الصبا) إلى (النوا أثر) ثم إلى (النهاوند) على (الري) ويسلم للغناء (أعطني حريتي أطلق يدي) على (النهاوند).
(راحة الأرواح) هو المقام الشرقي الشجي الذي له أثر تأملي، لكنه تأمل حركي وليس ساكناً مستريحاً كما في الكرد. هو مقام المناجاة التي لا ترتفع الى درجة الشكوى ولا النواح، لكن فيه حنيناً مع بعض الامتناع، الذي هو أساس الأغنية.
خلاف وانبهار
الخلاف الذي شهدته كواليس الأغنية بين أم كلثوم والسنباطي على نهاية الأغنية (قفلتها) جعلها تتعطل نحو أربع سنوات، على إثر اعتراض أم كلثوم على ذلك الأمر، وهو (الكوبليه) الذي تقول فيه (لا تقل شئنا فإن الحظ شاء).. لتقول للسنباطي: “الطبقة عالية يا رياض عايزاك تعدلها.” وهو ما أثار غضب السنباطي الذي ألقى بعوده الى الأرض، وخرج مسرعاً من بيتها، عائداً إلى بيته متعجباً من موقفها. وخلال سنوات فشلت كل محاولات الصلح بينهما، لكن في النهاية امتثلت أم كلثوم للسنباطي وقامت بأداء القصيدة وختمتها كما رسم لها السنباطي، وحين رأت ردود أفعال الجماهير المنبهر بهذا الختام، أدركت أن السنباطي كان محقاً تماماً.
وبعدما انتهى الحفل في نحو الثالثة صباحاً، أمرت كوكب الشرق سائقها الخاص أن يذهب بها إلى منزل السنباطي، الذى فوجئ بزيارتها في ذلك الوقت المتأخر، إذ إنها جاءت لتؤكد له أنها أدركت أنه كان محقاً في ختمته لنهاية القصيدة كما أراد لها من حيث اللحن والطبقة، ولاسيما في ترديد مقطع “لا تقل شئنا فإن الحظ شاء” ثلاث مرات متتالية، لأنها اكتشفت روعتها من خلال تناغم الجماهير معها.. لقد ختم السنباطي بصوت أم كلثوم آخر الروائع اللحنية الكلاسيكية، لتكون قصيدة الأطلال تحفة فنية كبيرة ستبقى خالدة أبد الدهر.