محمد موسى /
في الدقيقة الأولى من الفيلم يوجه (سيرجيو فييرا دي ميللو)، الذي يلعب دوره الممثل (فاغنر مورا)، خطاباً الى المشاهد يخبره أن منظمة حقوق الإنسان ضمن بعثة الأمم المتحدة هي السبيل الأمثل والفرصة الحقيقية لتحقيق الأحلام، لكن هذه الفرصة تحتاج الى المثابرة والعمل الميداني المباشر.
إن هذا الخطاب الذي سيكمله سيرجيو في نهاية الفيلم، أي بعد 1:58 (ساعة وثمان وخمسون دقيقة)، ليبدا مشوار الحوار عبر (فلاش باك)، وهو تحت أنقاض مبنى الأمم المتحدة في بغداد الذي فجره تنظيم القاعدة الإرهابي بأوامر مباشرة من الزرقاوي المقبور في العام 2003.
على المستوى التقني، فإن الفيلم الذي أنتجته شركة (نتفليكس) وصدر عام 2020 لم يكن من الأفلام التي تحتاج الى سيناريو كبير، فهو يقع ضمن أفلام السيرة الذاتية التي عادة ما تكون إعادة ترتيب لأوراق شخصية ما وإظهارها الى العلن. وعلى الرغم من أن الفيلم لم يحاول أن يغرق في السياسة، إلا أن الإشارات الواردة في الفيلم كانت كفيلة بأن نفهم كيف جرت الأمور حينها، ونقصد حين انتقل سيرجيو الى بغداد كمفوض سامٍ للأمم المتحدة لحقوق الإنسان، وممثل للأمين العام كوفي عنان.
في رحلة الدخول بالسيارة من مطار بغداد الدولي الى مقر الأمم المتحدة، برفقة زميلته كارولينا (التي تلعب دورها الممثلة آنا دي آرماس)، التي ستصبح حبيبته لاحقاً ومحوراً مهماً في السيناريو، كانت المشاهدات الأولى لسيرجيو صادمة، حيث المظاهرات وسوء الأحوال ومعاملة الجنود الأمريكان للمواطنين العراقيين وقطع الطرق. هذه المشاهدات جعلت من الرجل، ولخبرته الطويلة الميدانية في عدد كبير من دول العالم والصراعات التي شهدها، جعلته متيقناً من أن النقمة على الجنود الأمريكان قادمة لا محال، فهو يصرح لكارولينا أنه هو شخصياً لا يتحمل أن يشاهد جنوداً غرباء في عاصمة البرازيل (الدولة الأم لسيرجو)، لذا فهو لا يرضى أن يُحتل اي بلد. هذه الإشارات جعلت منه نداً قوياً لصاحب الكلمة الأقوى، وهو الحاكم المدني الأمريكي في العراق بول بريمر، الذي كان يطلب منه عدم انتقاد سلطته، وأن الطريق لأن يصبح الأمين العام للأم المتحدة لا يمر بانتقاد الولايات المتحدة. لكن سيرجيو يطلب منه الإسراع في تنظيم الانتخابات وتسليم السلطة للعراقيين، وكذلك يطلب منه عدم إعادة فتح سجن أبو غريب لما له من سمعة سيئة عند العراقيين، لكن الحاكم يرفض هذه الأمر بشدة، لتبدأ مرحلة التوتر بين الرجلين بالتهديد غير المعلن.
لماذا رفض السيد السيستاني
لقاء بريمر
من هنا يبدأ سيرجيو بجمع الأدلة على انتهاكات لحقوق الإنسان يمارسها الاحتلال الأمريكي وينوي إرسالها الى مجلس الأمن، وهذا ما قاله سيرجيو نفسه لبريمر، ليجن جنون الأخير ويبدأ بلوم سيرجيو بأنه اختار أن يكون عدواً له، والدليل انه اجتمع مع آية الله السيد السيستاني الذي رفض مراراً أن يقابل بريمير، او حتى أن يرد على اتصالاته الهاتفية، وهذه النقطة بالتحديد أعطت الأمم المتحدة الأفضلية في العراق على حكومة بريمر الذي بدا موقفه صعباً أمام واشنطن، فأضمر لسيرجيو العداء.
نحن نسرد هذه الحكاية بطريقة الذاكرة (فلاش باك)، وسيرجو بين الحياة والموت تحت أنقاض مبنى الأمم المتحدة، وهنا نبدأ بالتساؤل، وعلى لسان مسعف واحد دخل لينقذ المحاصرين، حين يقول له سيرجيو: “أين الدعم؟ أين الآلات الثقيلة والمفارز الطبية؟ أين أكبر جيش في العالم؟” فيرد عليه المسعف: “لا احد يرد على اتصالاتي لنكتشف”.
هل مازال حياً؟
دون إبلاغ واضح من الفيلم أن عملية التفجير كانت من دواعي سرور بريمر، ولاسيما موت سيرجيو . ولأن بريمر يصل الى موقع الحدث والمبني مهدم، فيخبرونه بأن سيرجيو ما زال حياً.. فيقول: “هل ما زال حيا !؟” ثم ينصرف بعيداً دون اهتمام يذكر. سيرجيو الذي تعامل بإنسانية مفرطة، غير مقدر لحجم الخطر المحدق بهم كبعثة دولية، طلب من القوات الأمريكية المرابطة حول بناية الأمم المتحدة أن تنسحب كي لا يشعر العراقيون أن هذا المبنى تابع للجيش الأمريكي او مؤيد للاحتلال، ورغم اعتراض أعضاء البعثة والموظفين على هذا الإجراء إلا أن سيرجيو يصر أن هذا هو الحل الأمثل كي تبقى البعثة إنسانية أممية لا دخل لها فيما يحصل من انتهاكات، وأنها لا تتلقى أوامرها من أية جهة كانت. هذا الخطأ جعل الإرهابيين يستغلون ضعف الحماية ويفجرون المبنى، لذا توجب على سيرجيو أن يعتذر لصديقه الذي حبسه الكونكريت معه أسفل البناية وتسبب بموت العشرات من أعضاء وموظفي الأمم المتحدة في بغداد، ان يعتذر له أنه لم يقدر حجم الخطر.
نقاط قوة الفيلم
كل من شاهد الفيلم سيكتشف منذ اللحظة الأولى الاختيار الصائب للممثلين، إذ أدى الممثل (غاريت ديلاهونت مواليد 1964-كاليفورنيا) دور الدبلوماسي البرازيلي سيرجيو، وأجمل ما في هذا الممثل هو الهدوء الذي يمثل الدبلوماسي بعيداً عن العصبية والغضب، بل كان يشعرك في كل لحظة أنه سيرجيو حقاً، لقد عاش القصة بكل ما تحمله الشخصية من أحلام بإحلال السلام في بلدان عدة ونجح فيها، وما يحمله من ألم الابتعاد عن أرضه وأبنائه الذين لا يراهم إلا نادراً بسبب انشغالاته وسفره، وهو ما جعل علاقة الأبناء بالأب تبدوا أقل نجاحاً قياسا بالعمل. من ناحية أخرى تشاركه البطولة (آنا دي آرماس مواليد 1988-كوبا) بدوركارولينا، الزميلة ومن ثم الحبيبة، التي يقرر سيرجيو الزواج بها بمجرد انتهاء مهامه في العراق، وهي كذلك تدعوه بعدم إطالة مدة إقامته في بغداد خوفاً عليه وحباً للوطن الذي سيجمعمها (البرازيل)، لكنها تعلم أنه من النوع العنيد الذي لا يرضخ لضغوط الحاكم الأمريكي، لذا فهي تزداد قلقاً عليه، هي الجملة التي جمعتها مع نفس الممثل في فلمها الأخير (الشقراء – عن قصة حياة مارلين مونرو إنتاج 2022)، لكن الفارق أنهما في هذا الفيلم بطلان، أما في (الشقراء) فلها البطولة المطلقة.
نقاط ضعف الفيلم
أولاً –وكالعادة- جرى التصوير في مكان لا يمت بصلة لبغداد، رغم أنها مركز الحدث، حيث صور العمل في مدينة جبلية كعمان او بيروت او ماشابه، وهذا يدل على عدم اهتمام المنتج بإظهار بيئة العمل الرئيسة، وقد لا تشكل فارقاً عند المشاهد غير العراقي أصلاً. الموسقى التصويرية كانت أضعف من الحدث، ولم تفلح بمجاراة حجم المأساة التي وقعت، وكذلك شكل الحريق الذي يظهر وكأن إطارات سيارات تحترق خلف سياج مدرسة، أما الجروح وآثار الدمار فهي أضعف من توصف.. باختصار هو فيلم أوصل رسالة سياسية مشفرة ولم يهتم بالتقنيات أبداً. الخلاصة : هي ثلاثة أشهر فقط قضاها سيرجيو في بغداد كشفت لنا الكثير.