خضير الزيدي/
لا تخلو مدن إيران من رموز وشخصيات ذكرها التاريخ، كانت ذات يوم منهلاً معطاءً في الفن والشعر والآداب الإنسانية. ولهذا يواجه المسافر إلى تلك الدولة بكثرة الساحات الجميلة، والتي تُشيّد قربها النُصب المعبّرة عن رمزية أفراد قدموا منجزاً عبر آثارهم الإبداعية. ولعل شخصية الحكيم (أبو القاسم الفردوسي) واحدة من بين أولئك المتميزين في عطاء الشعر ومؤلفات السيرة وإعادة ملاحم بلاد فارس ورجالها إلى واجهة الذاكرة. وليس ببعيد عن مدينة مشهد،ثمّة مقبرة واسعة ما أن يدخلها السائح حتى يخيّل إليه أنه في متنزه سياحي، لأن واجهتها تضم نصباً وساحة وبناية تدل على أن المكان هو مقبرة الفردوسي،ذلك الرجل الذي دوّن له التاريخ يوم ولادته في عام 940 ميلادي في قضاء طوس وسجّل لحظات أنفاسه الأخيرة بعد أن تجاوز السبعين عاماً، والأهم من كل هذا لا يعرف شخص قدم الفرس وحكامهم واعتز بقوميته على باقي الأمم مثلما عمل عليه صاحبنا أبو القاسم الفردوسي.
مقبرة الفردوسي
في تشرين الأول من العام ألف وتسعمئة وأربعة وثلاثين شهدت إيران، وتحديداً مدينة طوس، احتفالاً بهيجاً أزيح فيه الستار عن نصب تذكاري جميل للشاعر الحكيم “أبو القاسم الفردوسي” وسط حشد من محبي ومتذوقي الفنون الإنسانية، وخاصة الشعر وآداب الملاحم والأساطير. منذ ذلك التاريخ ليومنا هذا والنصب مع حوض ماء مستطيل صُمم بشكل لافت وجدار عالٍ يحمل نقوشاً وأبياتاً من الشعر باللغة الفارسية هي موضع اهتمام كل من يدخل مقبرة الفردوسي، وأنا بين هذه الفسحة من الفن والزهور والدهشة في التصميم تيقنت بأني لا أجد وصفاً لما أريد تدوينه وأنا أتجول بين معالم تلك المقبرة التاريخية، فكل شيء يوحي بأنها مكان سياحي ذو طابع تراثي. أجمع أوراقي لأكتب ما أريد تدوينه من وصف فتخذلني اللغة لأن شكل المقبرة التي تجمعت في ذاكرتي غير هذا المكان، فها هي الأشجار الوارفة تبعد عني ضربة الشمس، وهذا طعم التراب يذكرني بما ينعت به الإيرانيون الزعفران بالذهب الأحمر. كل شيء قابل للاختلاف لأني أجلس قرب قبر شاعر معروف يدلّني على آثار قلعة طوس المهدمة وبقربها المتحف والمكتبة، وكل ذلك تزينه النقوش الجميلة، مع أن المكان يؤكد قدمه وغوره العميق في تاريخ الإنسانية، إلا أن شكله يدفعنا لمعرفة أول من دوّن لنا تاريخ المقبرة وسرد لنا بلسان التاريخ وصفها وماذا تضم، فنقرأ أن حمد الله المستوفي المولود في القرن الثامن الهجري أول شخصية تسرد للقارئ حكاية هذه المقبرة. أما عن تجديدها فهناك الكثير من عمل بجد على أن تكون صرحاً ومعلَماً وليس مقبرة تضم رفات الإنسان، وهذا ما دفع بالمعمار الإيراني المعروف كريم طاهر زاده أن يصمم الشكل الخارجي للمقبرة عام 1934 لكي تفتح أمام حشد كبير من الناس بمناسبة الذكرى الألفية.
من أنت أيها الفردوسي..؟
أتساءل مع نفسي إلى أي مدى يمكن لهذا (التمثال) المنحوت من حجر الرخام الأبيض بمعول الفنان الإيراني (أبو الحسن صدّيقي) أن يحمل ملامح رجل توفي عام 411 الهجري. شخصية استثنائية مثل الفردوسي صاحب كتاب (الشاهنامة)، ذلك الكتاب الملحمي الذي جمع سيَر الملوك في توظيف شعري احتواها في ستين ألف بيت من الشعر اعتزازاً بملوك فارس، هل ممكن أن يكون هذا التمثال صادقاً في تعبيره؟.. من يدري، فربما تطابق الوجه الفني مع الحقيقي، ولكن المهم هنا أنني أقف حيال مؤرخ وشاعر أبدع، وحينما توفي لم يدفن بين مقابر العامة إنما اختاروا له بستاناً تحيطه الأشجار العالية والزهور المتفتحة فأصبح مزاراً لمن يريد أن يتأمل حياة هذه الشخصية. تجمع كتب السيرة والتاريخ على أن الحكيم الفردوسي عاش في الفترة السامانية، ويشير الغالب من المؤرخين إلى أنه ينحدر من أسرة الإقطاعيين الأغنياء وعمل بجد ونشاط عبر ثلاثين عاماً ليؤلف لنا ملحمته المعروفة (الشاهنامة)، وهذا الكتاب الشعري نظم ليبين للقارئ أهمية الملوك الذين حكموا بلاد فارس، حيث سيرتهم مع الاهتمام بالأساطير والديانات القديمة التي عرفتها دولة فارس والأحداث التاريخية التي كانت تروى عبر ألسنة الناس مثل روايات (رستم واسفنديار وبيجن ومنية ورستم وسهراب وقصة العفريت اكوان وقصة سياوش). ولعل من المفارقات التي عرفناها من خلال سيرة هذه الشخصية أنه أرسل كتابه المتضمن لسبعة أبواب مختلفة بعد أن أنجز النسخة الثانية الى السلطان محمود، ولكن الأخير لم يعر اهتماماً ولم يقدم مكافأة، فما كان من الفردوسي إلا أن يضيف أجزاء من تلك الأبيات وهي تحمل عتباً على السلطان محمود غزنوي. أما المفارقة الجميلة فإن هذه الشخصية بقيت وفيّة لكتابة أبيات الشعر الخاصة بملاحم من حكم بلاد فارس وهو في سن تجاوز الواحد والسبعين عاماً لعله يعطي لكتابه (سيرة الملوك) قدراً من الاهتمام وهو يدون تفاصيل الحكام.