رجاء خضير /
لم أحسب أن إبحارنا لن يستغرق الا ثانية من الزمن الذي سار عكس ما نتمناه, فكيف لي أن أطوقك بأنفاسي, وأعيذك من شر كل حاسدٍ. كلماتي جوفاء خالية لا تغني ولا تعبّر عما بي من شوق وهيام وانت معي، فكيف اذا ابتعدت واصبحت في عالم غير عالمنا؟
سأجتاز المسافات و أسير على البحار وأعانق الريح لأصل اليك ونتعانق, وبعدها لأذهب الى الجحيم.. لأذهب الى الجحيم.
قضيتنا هذه حدثت في العاصمة في جانب الكرخ، بطلتها تضاهي حوريات الف ليلة وليلة في الجمال والذكاء والحكمة رغم سنواتها القليلة. كانت هي وشقيقتها التوأم محط اعجاب والديهما بالرغم من أنهما أنجبا قبلهما ذكورا وإناثا، لكن اهتمام والدهما بهما كان واضحاً للعيان، فشبتا تنعمان بهذا الأهتمام والرعاية لا سيما صاحبة القضية.
طلباتها كانت مجابة ورغباتها متحققة بدون عناء منها لامتناع والدها كما يفعل بقية إخوتها الآخرين حينما يرغبون بالحصول على شيء. وفي مرة عاتبت أمها والدها, لماذا هذه التفرقة بين ابنائهما , اجابها بحزن وشرود: لا اعرف لماذا أحس بأنها ستفارقنا سريعاً.
استعاذت والدتها من الشيطان الرجيم وقرأت المعوذتين عليها.
كبرت واصبحت جميلة بشكل لافت للنظر, وبدأ الخِطاب يزورونهم في البيت وهي بعد في المرحلة المتوسطة والأب يعتذر لهم بحجة أنها ما زالت صغيرة. وفي يوم تناهى الى أسماع الأم أن فلانا(!) جيرانهم المفضل لدى محلتهم يتبعها من والى المدرسة، فأضطرت الأم أن تنفرد بها وتحدثها طويلاً عن هذه العلاقات الطارئة وأنها نزوة صبا وشباب تذهب مع الريح, وان عليها أن تحافظ على نفسها وسمعتها, فإذا سمع الأب فسيغير معاملتهُ لها. اوضحت لها كل شيء, وهي جامدة لاتجيب عن شيء, فقط تبتسم، ولم يدر في خلد امها أنهما عاشق ومعشوق, وقد خطت الاقدار نهايتهما بأمر من الله. لم تنقطع عن محادثته هاتفياً وقد وعدها أن يتقدم أهله لخطبتها بعد اكمال دراستها المتوسطة, وقد بين لها أن والدها سيوافق لأنه صديق والده ومن منطقة واحدة، عليها فقط أن تهتم بدراستها فقط!! لاحظت شقيقتها الكبيرة شرودها وعدم اهتمامها بدراستها, قدمت لها النصائح والتشجيع، بكت وباحت لها بكل شيء يعذبها ويخيفها من حبها هذا!
ابتسمت أختها وقالت: انتِ مازلت صغيرة على قصص كهذه. اجابتها وبشكل قاطع: أنا أحبه مذ كنت في المرحلة الأبتدائية، لماذا لا تصدقوني. قبلّتها وطلبت منها عدم البوح بمشاعرها هذه أمام اي شخص لئلا يسمع والدهما!!
في يوم عادت الى البيت بعد دقائق من خروجها الى المدرسة خائفة ترتجف فسألها والدهما عما بها، قالت بصوت مضطرب: يتشاجرون في الشارع فلان (!) وبعض الغرباء وبسببي. خرج والدها مسرعاً وتجمع اهل شارعهم يتدخلون في فض النزاع, هدأت الأمور وتبين أنها تعرضت لتحرشات بعض الشباب فما كان من(!) الا أن يبعدهم عنها ويبدأ بالضرب.
قبلّهُ والدها وأثنى على موقفه هذا وأكد له أنه لايستغرب من ذلك لنبل وشيمة عائلتهِ المعروفة في المنطقة. تخرجت في المتوسطة واقترحت على والدها أن لا تكمل دراستها وتبقى في البيت لا سيما وأن شقيقتها التؤام قد رسبت واعلنت رغبتها في عدم اكمال الدراسة, أما هو فقد اكمل دراسته وتخرج.
وهنا حدّث والدته عن حبه لهذه الفتاة وطلب منها ان تزورهم وتعرف رأي والدتها قبل أن يتدخل الرجال, طارت أمه من الفرح، كيف لا وقد كان اختيار ولدها البكر حورية في الجمال والأخلاق.
فترة قصيرة وتمت الخطوبة رسمياً, فرح الجميع بهذه الزيجة وتمنوا لهما الحياة السعيدة المديدة. ولم يعرفوا حينها انها حياة أقصر من حياة فراشة تحوم حول وهج شمعة لتلفظ انفاسها في ثوانٍ…
الحزن. مضى أكثر من عام واصبحت أماً لأجمل طفلِ فقد أخذ من والديه الجمال والجاذبية وعذوبة دمهِ.
كبر وكبرت معه الفرحة، وحينما دخل شهره الثامن عاد والده فرحاً مستبشراً الى البيت يخبرهم بأن احدى الدوائر قد اتصلت به تخبره بأنه قد قُبل فيها وعليه أن يأتي باليوم(!) لأكمال إوراقه الرسمية والمقابلة.
تأخر في العودة وهاتفه مغلق، والداه في قلق ولكنهما يهدئان زوجته بأنه آتٍ عن قريب, يختلقون الأسباب والأعذار وفي قلبيهما خوفٍ اكثر منها. طرق بابهم بشكل عنيف وأتى الخبر المؤسف أنه في طريقه انفجرت سيارة مفخخة بجانب سيارته واستشهد مع العشرات.
وعرفوا أنه نُقل الى مستشفى(!) خرجت بدون وعي منها حافية القدمين وبعض نسوة المنطقة يسرعون معها فالمستشفى قريب من سكنهم, وهناك رأت تجمهر الشباب, الأقارب والأصدقاء والأهل, لم تدر بالاً لأحد, دخلت أروقه المستشفى وقادتها أحدى الطبيبات الى حيث يرقد. علمت بمفارقته الحياة, اقسمت له و أمام مسمع و انظار الكادر الطبي بأنها ستفي بوعدها له حينما أقسما يوماً أن يدفنا سوية وبنفس اللحظة.
لم يصدق منْ سمعها تنفيذ هذا الوعد وظنه انه من شدة الجزع والصدمة. عادت مع النسوة الى البيت واحتضنت طفلها وأرضعته وسحبت شقيقتها التوأم الى غرفتها وطلبت منها ان تحمل ابنها وتكمل رضاعته في الأسفل, لأنها سترتب غرفتها قبل تجمع الناس, صدقتها شقيقتها ونزلت, وما هي الا دقائق وسمع الجميع الذين في الداخل والتجمع أمام البيت صوت اطلاقة نارية. هرول الجميع الى مصدر الصوت واولهم والدها وشقيقتها وشاهدها الجميع ممددة على السرير ممسكة بالمسدس تحت رقبتها الذي سال الدم سريعاً محتضنة باليد الأخرى صورته. علا الصراخ والأستغاثة، وحينما وصلت سيارة الإسعاف عرفوا بأنها قد غادرت الحياة تاركة والدها ينفذ وصيتها بأن ينزِلها الى اللحد قبل زوجها وحبيبها.
توجع الجميع وصرخوا كيف فعلتِ هذا؟
وكيف استطعتِ مفارقة ولدكِ الوحيد؟
واسدل الستار على قصة حبِ خطها القدر ووضع نهايتها!!