#خليك_بالبيت
رجاء خضير /
الأضعف وجودا، في الدنيا هو الذي أبكى أقوى الرجال وأقساهم قلباً وأقصد المرض..
ولم يخطر في بالها أو بال والدتها أن تكون نهاية اللقاء مع والدها كما ترويها لنا..
كانت شابة طموحة متفوقة بشهادة عليا، تنهل من العلم أينما يكون وتتابع آخر التطورات العلمية في مجال اختصاصها لتنجح في عملها وتترفع في مسؤولياتها الإدارية لدرجة كان يلقبها فيها زملاؤها وزميلاتها في الدائرة بـ (الصاروخ الطائر) لتنقلاتها بين الأقسام باستمرار للانتهاء من واجباتها حتى نهاية دوامها اليومي، وأثناء العمل كانت تقدم المساعدة والمشورة لكل منْ يطلبها منها، بل تعرضها أحياناً على مسؤوليها في العمل… وخلال الدراسة والتخصّص نسيت الزواج ولم تفكر به نهائيا..
خشيت عليها أمها لئلا يتقدّم بها العمر دون زواج، لا سيما هي ابنتها الوحيدة التي صبرت عليها وعلى تربيتها وتعليمها بعد أن طلّقها زوجها وتركهما وحيدتين تصارعان هموم الدنيا ومعاناتها، لم يسأل يوماً على ابنته التي ما انفكت تسألُ عنه، وحينما كبرت أوضحت لها الأم كل شيء يخص والدها، وأنَّه تخلى عنهما بسبب عشق امرأة أخرى وتركهما ليتزوجها مع تأكيدها لها بأنّه يحبّها كثيراً كي لا تزرع الكراهية في قلبها تجاهه فهو والدها بكل الأحوال.
ومنذ صغرها، تميّزت الفتاة بذكائها وحبّها للعلم وهذا ما مكّنها أن تحصل على معدل يؤهلها للدخول إلى كلية الطب وأيضاً تميّزت فيها، بل وتعيّنت معيدة بها، وبقيت تواصل دراستها العليا يشجّعها على ذلك أساتذتها الذين يعرفون تميُّزها عن باقي زملائها…
وفي كل حوار بينها وبين والدتها عن الزواج، كانت الام تفشل في إقناعها وهي تؤكد لها أنها تزوجت العلم ويتلخص طموحها ورغبتها بتحقيق شيء تفيد به الوطن… مما دفع أمها إلى أن تتصل بخالها ليقنعها بعريس تقدّم لها؛ يمتلك مواصفات تحلم بها أي فتاة، لكنّه فشل أيضا في إقناعها وكان صريحا معها حين سألها إن كانت تجربة والدتها مع والدها قد أثرت عليها، لكنّها لم تجبه وولتّ هاربة من أمامه إلى غرفتها لتدخل في نوبة بكاء شديدة، ومنذئذ قررت الأم أن لا تفاتحها بأمر الزواج مرة أخرى، واكتفت بالدعاء ليساعدها الله في تغيير رأيها. لتسير الأمور بشكل طبيعي في البيت؛ فهما متفاهمتان بكل شيء، إلى أن جاء اليوم الذي أخبرتها فيه أمها بأنّها تنويّ التقاعد من العمل فسنّها القانونية قد اقتربت، وبعد الانتهاء من معاملة التقاعد، بدأت تفكّر ثانية بمستقبل ابنتها الوحيدة وفكّرت أيضاً بطليقها الذي لم يسأل ولو مرة واحدة في حياته عنهما، وهجرته مع عائلته الاخرى إلى الخارج ليست سببا في عدم السؤال مع استمرار الابنة في السؤال عنه وتعليق صورته على جدار غرفة نومها. ولم يطل تفكيرها كثيرا، إذ أخبرتها الابنة بأنها مع زميل لها مرشحان في الخارج، لكنّها متردّدة بالموافقة كي لا تتركها وحدها. في المقابل، فرحت الأم وشجّعتها على السفر وأخبرتها بأنّها ستذهب للعيش مع خالها الذي يسكن محافظة أخرى. والتحقت بالدورة مع زميلها الذي في تخصصها نفسه، والام تحلم بأّنّها قد تحبه ويعودان متزوجين.
كانتا تتحدّثان يومياً عن التفاصيل والذكريات ووصايا الأم لا تنقطع لابنتها أن تنتبه لنفسها وأن، و… وتسمع قهقهات زميلها قائلا: “أحسدك على هكذا أم”.
عملا ليل نهار وحقّقا نجاحاً باهراً مما جعل تلك الجهة الاجنبية تقترح عليهما البقاء للعمل معها أو تمديد مدة بقائهما للفائدة المشتركة، لها ولوطنهما، مما دفع بزميلها أن يعلم الدائرة الأصلية في الوطن بكل شيء، وأعطتهما السماح بالبقاء أكثر، أما أمها فقد عدّت ذلك فاتحة خير لابنتها، فلو كانت غير متوافقة مع رفيقها لعادت أدراجها.
إحساس الأم لا يخطئ فقد بدأت الفتاة تميلُ لرفيقها وهو بدوره بادلها الإحساس نفسه، وشرحت لأمها شعورهما تجاه بعضهما البعض لتفرح الام وتستبشر خيرا. اتصلت الأم بابنتها في اليوم التالي كالمعتاد، لم ترد بل وصلتها رسالة مقتضبة تقول: (أمي أنا مشغولة سأتصل بك فيما بعد) وتكرّرت هذه الرسالة لأيام تلت مما أثار قلق الأم، فأتصلت برفيقها والحال نفسه لم يجب، أخبرت خالها وحاول مرات عدة دون جدوى، بعدها وصلتهم رسالة من ابنتهم تبلغهم أن زميلها قد أصيب بفيروس كورونا اللعين، وهي تشرف على علاجه مع باقي الأطباء هناك!
وجنّ جنون الأم وبعثت برسائل عدة تتوسّل بها وترجوها أن تعود وبسرعة: كيف أعود يا أمي وجميع الحدود مغلقة، إذن اذهبي إلى سفارتنا هناك واسألي عن عنوان والدكِ فهو في البلد نفسه الذي أنتِ فيه وأكدت قائلة هو والدكِ وسيرعاكِ.. وسألتها بدموعها لماذا لم تخبرها من قبل أن والدها معها في البلد نفسه، وبكت الأم وأنهت المكالمة. لتبدأ الفتاة بجولة البحث عن والدها تساعدها هناك بعض الشخصيات العراقية المقيمة، كان تقسّم وقتها بين رعايتها لزميلها الذي تماثل للشفاء وبين البحث عن الوالد الغائب الحاضر، بعد مضي فترة استطاعت الوصول اليه لم يتعرّف عليها بداية الأمر، لأنّه كان يعاني من مرضٍ ما (!) هذا ما أخبرتها به زوجتهُ، قدّمت نفسها له وحينما نظر اليها بامعان وعرف اسمها الثلاثي أطرق رأسهُ أرضاً وقال بحزن واضح أنتِ… وقاطعته (أنا ابنتك يا أبي).
أنا (!) التي تركتها مع والدتها التي طلّقتها، تركتهما يصارعان الدنيا، وبصبر ومثابرة أمي وصلتُ إلى ما أنا عليه الآن يا أبي… دموعه كانت بديلاً عن الكلمات، وهنا أحسّت بيدٍ تسحبها من يدها لتدخلها غرفة أخرى؛ هي زوجة أبيها التي أوضحت لها بأن والدها أيامه معدودة، فهو مريض جدّاً، ولا داعي لفتح وقراءة صفحات الماضي!!
وعادت إلى غرفتهِ حيث يرقدُ، الضعف والهزال لم يتركاه يتكلم، بل يتمتم بكلمات فهمتها ابنته أنها اعتذار منها ولما بدر منه تجاهها وتجاه أمها، ثم فهمت منه أنّه لا يستطيع أن يسامح نفسه أبداً وبدأ بالبكاء، حاولت إسكاته وهي تقول له: (أنا سامحتك يا والدي) أحبك، صورك تملأ غرفتي انظر اليها يومياً، كم اشتاق اليك وبكيا معا وخرجت لتلحقها زوجته تناديها باسمها….
انتظري لقد كتب والدك رسالة لك سأتيك بها، استلمتها بظرف مغلق ومختوم، وقرأتها في غرفتها في محل إقامتها وفهمت منها المقصود واتصلت بوالدتها لتقول فحوى الرسالة: (هو ندم على فعلته معنا بعد ثلاث سنين ولكن الوقت لم يسعفه لتصحيح خطأه، كان يفكّر بنا يومياً ولا وسيلة للاتصال… كان يرغب برؤيتي ولكنّه عجز في السنوات الأخيرة).
بكت الأم على الهاتف فهو زوجها وعاشا سنوات بسعادة… قاطعتها الفتاة قائلة: “أمي… أمي لقد أوصى بكل ما يملك في العراق لي يا أمي، أنا أردته دائما أباً حنوناً فقيراً… لا أريده غنياً لا يعرفني”.. وفي نهاية قصتها، سألتني: وماذا تقولين أنت، أو ماذا سيقول القرّاء، هل اتواصل معه، أم أتركه لضميره؟
النسخة الألكترونية من العدد 361
“أون لآين -4-”