باسم عبد الحميد حمودي /
من أكثر المطربين حضوراً في الوجدان الشعبي العراقي في زمن مضى, لكنه ليس ببعيد, حضيري أبو عزيز وداخل حسن في الجنوب والوسط الفراتي, ومثلهما في بغداد محمد الكبنجي ويوسف عمر وحسن خيوكة إضافة الى الغزالي ناظم. يتميز أداء المطرب حضيري حسن رهيف الصرخي العبودي (وهذا هو اسمه الكامل) بوجود لون من الأغاني والبستات الموا كبة للوضع الاجتماعي التي يستخدم التوجيه والنقد الملحن لحال من الأحوال, بلغة طريفة الكلمات يحيطها الأداء الريفي الجميل بلون من الصدق والجمال.
ولد حضيري أبو عزيز في قرية من قرى مدينة الشطرة عام 1909 وتوفى في بغداد في الثالث من كانون الثاني عام 1973(وقيل في اليوم الخامس والعشرين من ذات الشهر).
الطفل اليتيم
عمل وهو صبي راعياً للغنم في قريته، لكن خاله حسين المحمد صحبه معه الى الناصرية ليعمل معه في خياطة الملابس، وخلصه بذلك من جور عمه في القرية، حيث كان والد حضيري قد توفي خلال الحرب العالمية الأولى, وترك حضيري الطفل يتيماً مع شقيقه (بغدادي) الذي ولد بعد استشهاد والدهما حسن رهيف، الذي هاجم السفينة العثمانية المسلحة (بغداد) خلال السفر برلك (النفير العام) وقتل وهو يهاجمها, وكان الوالد قد طلب من إخوته تسمية المولود القادم (بغدادي) إذا كان صبياً و(بغداد) إذا كانت فتاة.
تقول شقيقة حضيري الكبرى (جواهر)، التي عمّرت الى 110 أعوام, إن خالهم حسين المحمد، صحب حضيري الى بيته في الناصرية وجعله عاملاً معه في دكان الخياطة الذي يعمل فيه في سوق صغير للخياطين في تلك المدينة التي اشتهرت باعتمادها على اقتصاديات الزراعة.
كان الفلاحون يشترون ملابسهم الخارجية والداخلية من دشاديش وستر وصايات وسواها، إما من الأسواق العامة، أو يفصلونها عند الخياطين أمثال حسين المحمد, وكان الخياطون وأصحاب المصالح الأخرى ينتظرون لفترة حتى يستطيع الفلاح تسديد ثمن ما خاط أو اشترى بالنسيئة حتى وقت الحصاد ليسدد دينه.
أبوذيات خلف ماكنة الخياطة
كان العمل وفيراً في دكان حسن المحمد, ولاسيما عند جلوس حضيري الصبي عند ماكنة الخياطة وانطلاق صوته الرخيم بأبوذيات وأغاني الريف, حيث يقتعد الفلاحون من زوار الناصرية من القرى المجاورة الأرض بانتظار إكمال خياطة ملابسهم وهم يستمعون الى ذلك الصوت العذب صادحاً.
ووجد من يخبر المتصرف (المحافظ) بجمال صوت هذا المغني الريفي الذي بدأ بالمشاركة في حفلات المدينة الأهلية في ليالي الزفاف والأعراس وليالي ختان الأولاد.
وكان من عادة سكان الناصرية دعوة أحبابهم وجيرانهم في مناسبات كهذه ودعوة كبار الموظفين لحضور هذه الحفلات والحرص على دعوة ضباط الجيش والشرطة كذلك، حسب مستوى الداعي ومكانته.
شرطي خياط
واستطاع أحد المسؤولين المعجبين بصوتي حضيري وزميله داخل حسن تعيينهما بصفة (شرطي خياط) ليكسبا رزقهما رسمياً وهما يزدهران شجناً وصوتاً وأداءً ساحراً.
بعد ذلك استطاع العلّامة الشيخ محمد رضا الشبيبي، وزير المعارف آنذاك والمثقف الكبير، الحصول على موافقة وزارة الداخلية على نقل حضيري وداخل الى دار الإذاعة اللاسلكية ببغداد عام 1939.
كان هذا اسم الإذاعة العراقية الرسمي, وكان الشبيبي واحداً من كبار رجال الثقافة العراقية، فهو شاعر وباحث مجيد، له دراسات في الأدب والتراث الشعبي العراقي، إضافة الى اختياره رئيساً لنادي القلم العراقي، ثم رئيساً للمجمع العلمي العراقي, وعيناً في مجلس الأعيان الذي هو المجلس الأول من مجلسي الهيئة الدستورية التي تجمع مجلسي النواب والأعيان, وكان أيامها وزيراً لوزارة المعارف (التربية اليوم) التي كانت تشرف على الإذاعة.
كان دخول المطربَين الى الإذاعة بشكل رسمي عملاً مهماً في حياتهما وفي ازدهار الأغنية الريفية على مستوى البث الإذاعي, وقد اعتاد حضيري وغيره من المطربين الغناء المباشر دون تسجيل, حتى استخدم نظام التسجيل والبث بعد ذلك.
تميزت أغاني حضيري بالشعبية وحب الناس لها, وكان يكتب معظم أغانيه، عدا مدونات أخرى لجبوري النجار وعبد المجيد الملا وسواهما، إضافة إلى البستات التي كتبها الملحن والموسيقي العراقي صالح الكويتي.
النقد الغنائي
وكان من تجارب حضيري الغنائية الاجتماعية ضلوعه في نقد (أبو التموين), و(أبو التموين) هذا هو الموظف المختص في وزارة التموين الذي يقوم بالمصادقة على طلبات رب الأسرة لصرف دفتر التموين الذي كان يساعد الأسرة في تأمين بعض احتياجاتها الغذائية في زمن الحرب العالمية الثانية، لغلاء أثمان المواد، وهي بمثابة الحصة التموينية اليوم.
كان الطلب يسمى (عريضة)، وكان إمضاء موظف التموين هو المصادقة على الطلب إيذاناً بحصول رب الأسرة على دفتر التموين.
غنى حضيري أبو عزيز لموظف التموين منشداً:
امضي العريضة
دمضي العريضة
عمي يابو التموين
امضي العريضة
والسمرة على الشاي طاحت مريضة
والشكر غالي ومنين أجيب الشاي
والشكر غالي
كان ذلك بين عامي 1939-1940, وكان العراق وسط أتون الحرب حليفاً لبريطانيا ومحورها, وكان حضيري يقول لأبي التموين مناشداً أن (السمراء) الحبيبة سقطت (طاحت) مريضة لأنها لم تشرب الشاي منذ فترة, إضافة الى ارتفاع سعر السكر والمواد الأخرى التي يستذكر حضيري بعضها في أغنيته المنشدة.
وكان سكان القرى العراقية في سنوات الحرب العظمى الثانية وبعدها، ينيرون ليلهم بالفوانيس النفطية واللوكسات أو غيرها، بينما استطاعت معظم المدن العراقية الحصول على محطات للكهرباء، محلية التشغيل, من هنا انطلقت أغنية حضيري (إحنا بنات البلد)
تقول بعض كلمات الأغنية:
أحنا بنات البلد والكهربا عدنه
يا ريفي لا ترتجي ولا توصل لحدنه
و(الحد) هو الحدود بين المدينة التي هي (البلد) والريف الغارق بالظلمة أو المعتمد على الإنارة الذاتية, وبقدر ما كان في لحن الأغنية من حلاوة أداء حضيري والكورس النسائي معه إلا أن النقد كان واضحاً فيها.
ومن نقدات حضيري الجميلة والانتقادية معاً أغنيته (شيريد مني المختار), والمختار هو ممثل الدولة الذي يقوم بإبلاغ صاحب الدار بموعد تجنيد ولده, او بدعوى مقامة عليه وما إلى ذلك من تفاصيل الحياة.
ومن نقداته أيضاً حواره الضاحك الباكي مع (السيد) وهو يتخذ صفة المرأة الشاكية التي تبدأ الغناء بالقول:
ويلاه وا ويلاه
يالسيد ما روح وياك باليني بلوه
إكفيني شرك مو عذبيت الروح
إكفيني شرك
فيقول لها السيد مهدداً:
أنا سيد وأشور بيج وأكطع بناتج
من حسن ذاتج من حسن ذاتج
خليني أطب للبيت من حسن ذاتج
فتقول السيدة ملتاعة مولولة:
سيد ما روح وياك باليني بلوه
ومن أغاني حضيري التوجيهية: (امشي فوك على الرصيف- اصعد فوك على الرصيف) وهو هنا يوجه السابلة الذين يمشون وسط الشارع دون احترام لتوجيهات المرور.
عمي يا بياع الورد
وكان لحضيري عد من الإخوة أقربهم الى قلبه (بغدادي)، الذي صاحبه الى بغداد و(عنيّد) الذي كان يحبه كثيراً وغنى له أغنيته الشهيرة:
(عيني وماي عيني- ياعنيد يايابه- تسوه هلي وكل الكرابه –يا عنيد يايابه)
وقد اشتهرت هذه الأغنية وانتشرت في العالم العربي وصنع منها غوار الطوشة (دريد لحام) صورة اجتماعىية أخرى.
كانت أغنية (عمي يابياع الورد) التي كتبها جبوري النجار أشهر أغانيه في العالم العربي, وكانت اثنتان من أغانيه وهما (هلي ياظلام هلي) و(احميد يا مصايب الله) من أشهر أغانيه، وكل واحدة منهما تحكي قصة شجية موجعة من قصص الريف.
لا أحد حتى اليوم أحاط بقدرة حضيري الغنائية ومضامينها المتنوعة الأهداف, وغناء أكثر من أربعمئة أغنية قدمها حضيري يتطلب جهداً وتفرغاً شاملين, ذلك أن حضيري أبو عزيز ظاهرة فنية جديرة بالتقدير والتتبع.