التسامح إيمان وقوة شخصية ومحبّة

أنسام الشالجي /

لم تكن صدفة أن نقيم ورشة عمل للتسامح مع الإعلان عن زيارة قداسة البابا فرنسيس إلى العراق، وحتى قبل أن نتابع تفاصيل الزيارة، كنّا على يقين بأن التسامح هو أهم رسائل هذه الزيارة..
طاقة المحبة وطاقة الغل
اتصلت السيدة (ندى، ٤٥ سنة، الاسم غير حقيقي وكذلك الأسماء الواردة في هذا الموضوع) طالبة النصيحة، فقد أصبحت مديرة في إحدى المدارس المتوسطة، وما تزال معاونتها، التي تتقول عليها وتكتب التقارير غير المنصفة عن تدريسها وترفعها إلى مشرفة المادة، لا تكل أو تمل، رغم أن المشرفة جاءت إلى المتوسطة وتأكدت بنفسها من كذب تلك التقارير. واستناداً إلى ندى، فقد كانت هذه المعاونة تحاول بكل جهودها أن تكون هي المديرة، لكنها فشلت وأصبحت ندى المديرة بدون واسطة بل بكفاءتها وصدقها.. النصيحة التي طلبتها هي كيفية التعامل مع هذه المعاونة وهي الآن تستطيع أن تعاقبها وتنقلها إلى مدرسة بعيدة عن منطقة سكنها. حدثتها عن التسامح وطاقته الإيجابية التي تفسح المجال للمحبة لأن تسود وتوقف الطاقة السلبية، طاقة الغلّ والكره، التي تتعب صاحبها قبل الآخرين..
ورشة عمل
مع الإعلان عن ورشة عمل عن التسامح، سجل العشرات أسماءهم، طبعاً الورشة أونلاين، عن بعد، ملتزمين بالاجراءات الصحية في مواجهة جائحة كورونا. لم تكن السيدة ندى لوحدها، فهناك من يحاول أن يسامح من تعمد أن يؤذيه في عمله ومن تحاول أن تسامح شقيقها الذي استحوذ على ميراثها، والتي تحاول أن تسامح زوجها الذي اساء إليها بعلاقة مع امرأة أخرى، وادهشني صبي قرر أن يسامح زميله.
الصبي المدهش
روى الصبي (أحمد، ١٦ سنة) قصته مع زميله الذي كان يغش في الامتحان النهائي في السنة الدراسية الماضية، وحين شعر بأن مراقب القاعة قد لاحظه، قام برمي السماعة الإلكترونية الصغيرة التي كانت في أذنه على أحمد فسقطت قرب قدمه، وجاء المراقب وسحب دفتر أحمد الذي دافع عن نفسه وقال إن زميله الذي على يساره هو من كان يغش، وأرجع المراقب دفتر أحمد ودفتر زميله وتأكد من صدقه لوجود أخطاء في بعض أجوبته، بينما أجوبة الآخر كانت صحيحة، وبرغم ما لمسه المراقب، كان لابد من التحقيق معهما، وهكذا لم يكمل أحمد امتحان ذلك اليوم، ويوم إعلان النتائج، كان أحمد ناجحاً بدرجات جيدة في كل المواد، ومكملاً بالمادة التي تم التحقيق معه يوم الامتحان، لم يحقد على زميله، وذهب إلى بيته مؤكداً له أنه سامحه، ومعبراً عن استعداده ليعاونه في الدراسة، خجل زميله من تصرفه. هذه السنة، أحمد يسبق زميله بصف لان الأخير منع من إكمال الامتحان بسبب الغش، لكنه ما يزال يساعده في الدراسة وأصبحا صديقين، وقال أحمد للمشاركين في الورشة إن والديه باركا له خطوته، بينما أدانها عدد من زملائه واعتبروه ضعيف الشخصية! لكنه لم يبال برأيهم لأنه يعرف أن ” التسامح سينير له دربه”.
ننسى أم نتناسى؟
كانت قصة أحمد لوحدها تدريباً واقعياً على التسامح في ورشة العمل، لكن (بثينة، ٢٨ سنة، خريجة) قالت إنها لا تستطيع أن تنسى فعل شقيقها بالاستحواذ على ميراثها بذريعة أنها غير متزوجة ولا تعمل وهو يتحمل مصاريفها، كذلك قالت (وداد، ٣٥ سنة، خريجة وربة بيت) إنها لن تنسى خيانة زوجها لها وتخشى إن سامحته أن يعتقد أنها نسيت، وقال (حسين، ٣٠سنة، مهندس) الذي عوقب في عمله بسبب خبث زميله وأنانيته، إنه حاول أن يؤذيه، لكنه فشل والآن يريد أن يسامحه كي يتمكن من الاستمرار في وظيفته.
التدريب والنجاح
على مدى أيام الورشة الثلاثة، وبعد الاستماع إلى القصص، بدأنا تدريب التسامح، طلبت من المشاركين أن يتذكروا إن كان من أساء إليهم قد كان يوماً طيباً معهم، وبالفعل قالت ندى إن زميلتها المعاونة قامت يوماً باقتراح (سلفة) وأن تكون ندى أول من تتسلمها بعد أن عرفت أنها لا تملك مالاً كافياً لدفع القسط الثاني من ثمن الشقة التي سجلت على شرائها. وفاجأ حسين الجميع بأن زميله الذي أساء إليه هو من كان قد وجد له العمل في المكتب الهندسي. فيما قالت بثينة إنها حين أصيبت بكورونا لم يتركها شقيقها وزوجته على مدار الساعة.
اتفقنا جميعا أن الذين أساؤوا إلينا ربما بسبب الغيرة أو الأنانية، أو لأي سبب آخر، يمتلكون صفات حلوة أيضاً وأنهم أسدوا إلينا جميلاً أو بعضه. إذن، لنتمسك بهذا الفعل الجميل ونسامحهم على إساءتهم، قد لا ننسى، فنحن في النهاية بشر، لكننا نستطيع أن ننتاسى. اتفق الجميع على أن مجرد التفكير بالتسامح قد منحهم طاقة كبيرة على المحبة ومنحهم راحة نفسية كبيرة، وأن هذه الطاقة ستؤثر على تحسين أدائهم في العمل وتقوي علاقاتهم الأسرية، واعترفت وداد بأن زوجها اعتذر مراراً عن تصرفه الخاطئ تجاهها وأنها لم تترك البيت لأنها تحبه كثيراً، وتذكرت كيف وقف في وجه أهله ليتزوجها وأن مسامحتها له تعني عودة ذلك الحب الكبير.
أخيراً..
في القرآن الكريم، يأمرنا الله سبحانه بالصفح (فاصفح صفحاً جميلاً) صدق الله العظيم. سورة الحجر، الآية ٨٥. وفِي الحديث النبوي الشريف يقول رسولنا الكريم المصطفى (صلى الله عليه وعلى آله الأطهار وسلّم) عن التسامح و العفو (ما نقص مال من صدقة، وما زاد الله عبداً بعفو إلا عِزاً، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله)، وفي الشرح نقرأ أن الذي يصفح عمن أساء إليه فإنه سبحانه يزيده عزاً ويجعله مقدراً بين الناس.