الغوص في ينابيع الطفولة بقرة ومعزة بيضاء تسرّان الناظرين!

فلسطين الجنابي /

“الشامية”، هذا كان اسم عنزتنا، ميزها بياضها عن جميع الماعز، لذا قررت أمي شراءها بعد أول موسم لـ “الكصاص”، آخر جني للتمر أواخر تشرين الأول، فحين علا المرج واشتدت خضرة حواف السواقي، ولما كنا قد احتللنا مساحة لا بأس بها في نفوس أهالي الحي الجديد، أتاحت لنا أن لا نجد منافساً على قطعة الأرض الصغيرة، التي عزلناها بسلك شائك، كي نضمها إلى بيتنا،
ولما صارت تلك القطعة خضراء جداً تدر على أهل الحي كل ما يحتاجونه من خضار، فلا بأس أن نضيف إليها قناً للدجاج ومعزة بيضاء جميلة تسر الناظرين.
شامية تسرّ الناظرين
الشامية اشترتها أمي من راع قال إن أصل المعزة من جبال الشام، لذلك يميزها شكل هو أقرب إلى الغزلان، وقال إن حليبها زبدي المذاق، وكانت تلك أول معاناة للشامية معنا، نحن الصغار الذين صرنا نفيق في الصباح من نومنا، فيكون أول عمل لنا هو أن نأخذ أقداحنا ونطاردها لنجرب حلبها، لعلنا نحظى بمذاق الزبدة الذي قيل إنه يميز حليبها عن باقي الماعز. كانت تجربة حلب المعزة تمر بمعركة عنيفة، فهي لا ترتاح إلا لأصابع أمي على ضرعها، وكأن الأمهات فقط يعرفن كيف يهدئن روع الكائنات الخائفة، في حين كانت تهجم علينا إذا ما أردنا أن نجرب ذلك معها.
الشامية التي غدت معزة الحي، ترعى في البستان القريب، وتقصدها أمهات الأطفال الرضع للتبرك بحليبها الذي كان يشفي أمراض الحلق وبعض الفطريات التي تصيب أمعاء الأطفال. كانت كريمة وسخية جداً، وعلى مدى أكثر من ثلاث سنوات كانت تلد لنا التوائم، التي غالبا ما يعيش منها اثنان فقط، لا أدري لماذا. أذكر يوماً أنها ولدت لنا معزة تشبهها، ومن شدة تعلقي بصديقة لي في الحي خلعت على المعزة الجديدة اسمها: آلاء، ما جعل البنت موضع سخرية عند أهلها، في حين كانت المعزة أهم من كل أهل الحي عندي، غير أن آلاء (المعزة) لم تعش طويلاً رغم كل محاولاتي لإنقاذها والاهتمام بها.
لم أكذب بآلاء ربي شيئاً
كما أن آلاء صديقتي عادت إلى البصرة أيام توقف الحرب مع إيران، ولَم يكن ثمة فارق زمني كبير بين رحيلهما، آلاء صديقتي البصرية الشقراء، كانت في مثل عمري لكنها أكبر حجما قليلاً، أذكر حين كانت تتغيب عن المدرسة، تحدثني بعدها عن مرض يصيبها كل شهر، ولم أكن أفهم شيئاً، ولا أفقه نوع المرض الذي كانت تعانيه، الذي كانت تقول عنه أنه تسبب لها بكثرة البثور على وجهها، أنا التي كنت في عمرها، إلا أن جل ما يمكن أن أكون عرفته آنذاك عن أمور الأمومة والنساء، هو كيفية حلب الشامية دون أن أحظى برفسة من رجلها الخلفية فتقعدني على أثرها مريضة ليوم أو أكثر، وكذلك بكائي ودعائي حين تعاني الشامية آلام المخاض.
وهبتنا الشامية لقاء، وهو جدي شقي جداً وذكي، وأخوه بقاء الذي بقي من ثلاثة توائم، وكان مصيره أن يدفن رأسه في أساس بيتنا حين عمرنا بيت البستان الذي عدنا إليه قبل حرب الخليج الثانية بأشهر عدة. الشامية التي فقدناها في ليلة ماطرة وعاصفة حين باغتها المخاض لتتعسر ولادتها، فنفقدها هي وأربعة توائم، كانت لتكون أشهر من ناقة صالح لو طال عمرها قليلاً. أذكر بعد موتها أنها لم تحظ بتكريم يليق بخدمتها لنا وللحي، فقد جرى رميها في النهر الذي شق حديثا خلف بيوت الحي السكني، وكان -كما أذكر- يسمى بالحفار أو هو امتداد له، وكنت أخرج كل يوم أراقب جثتها التي بدأت تتفسخ، ويسكنني أمل في أن تقوم، أو أن ينجو التوائم النائمون في بطنها، وكثيرا ما ادعيت أنها تتنفس، أو أني رأيت بطنها يتحرك، في الحقيقة كنت أريدها حية بأية طريقة.
الشامية لم تكن علاقة عبثية بالنسبة لي، كانت فرداً حقيقياً في العائلة، كما دجاجتنا أم رقبة (أم رگبة)، التي تشبه النسر في شكلها، التي ساءني أن تبيعها أمي لإحدى الجارات، بنفس القدر الذي أصاب قلبي بحزن عميق حين تم عقد صفقة بين أمي وجارتنا بأن تعطيها اثنين من الصيصان الذين كنت أنتظر أن يفقسوا بفارغ الصبر، فكانا ديكين رائعين في الشكل، أحدهما أسود داكن اللون مثل الليل، والآخر أصفر فاقع كأنه النهار، أذكر أني دبرت أكثر من حيلة لاسترجاعهما، لكني لم أفلح.
وردة.. بقرتنا
بمثل اللهفة التي استقبلت بها الشامية، كان لبقرتنا وردة ذات الحضور البهي في قلبي، وردة التي ركضت إلى أبي لاهثة، الذي كان يفاوض على شرائها بعد عودتنا ثانية إلى القرية. كنت في الخامسة عشرة حينها، جئت ألهث مثل من وجدت رفيقة طفولتها، ولا عجب، فأمي كانت تقول إني شاركت عجلة رضيعة في طفولتي، ذلك أني كنت أرضع حليب بقر طازج من بقرة تملكها أمي صادف أنها ولدت عجلة عند مولدي، فصرت شقيقة لعجلة صغيرة بالرضاعة! كما أنني ظللت أحتفظ بحبل أمي بالرضاعة لمدة عامين وأبكي لفقدانها حين باعوها. هذا ما تقوله أمي أيضا عن طفولتي. كان صاحب البقرة يفاوض أبي، وحين تمت الصفقة وراح الرجل يعد المال وهو راجع صحت من خلفه، “عمي لكن ما هو اسمها؟” فتطلع الرجل بضحكة خبيثة وهو ينظر إلي ويقول بمكر ظاهر: “اسمها وردة يا وردة.” ومنذ ذلك الحين ووردة بقرة الدار المباركة التي ملأت الدنيا صخباً وحباً وعطاء، إذ كان حليبها يصل إلى القاصي والداني، وراحت تلد لنا كل عام عجلاً، ولما ولدت مبروكة قرروا بيعها والاحتفاظ بمبروكة التي تركت مكانها فيما بعد لجمانة. جمانة كان الاسم الذي اختارته أختي فداء للعجلة التي ولدت يومها بمعجزة وبشجاعة نادرة منها، إذ صادف مخاض مبروكة في غياب أمي وأبي وإخوتي، عادت مبروكة إلى البيت مسرعة بعد أن أحست بآلام المخاض، وجعلت تحن وتبكي، وهي تجلس مرة وتقوم أخرى، فما كان مني إلا البكاء معها، ولما فقدت حيلتي في كيفية مساعدتها توضأت وجلست أصلي لله قربها، عسى أن يرعاها وأن يسهل ولادتها، كنت أخشى أن يصيبها مكروه، فما كان من أختي فداء إلا أن لفّت عباءة الحقل السوداء على ذراعها وقامت بسحب الجنين من داخل بطن مبروكة جراً بيدها ولا أعرف كيف تسنى لفداء معرفة ما يتوجب فعله وهي في عمرها ذاك، ولا من أين جاءت بكل تلك الشجاعة ورباطة الجأش، جرت العجل حتى أسقطته على الأرض فبركت المبروكة قليلاً، ثم قامت نشطة بعد لحظات تلاعب طفلتها الرضيعة التي أسمتها فداء -في لحظتها- جمانة، وكان كذلك، جمانة التي لم أعرف بعد ذلك مصيرها حين غادرت بيت أبي وقريتي في غياب دام طويلاً، ليتغير بعدها كل شيء.