قبل سبع سنوات، كانت عناصر تنظيم داعش الإرهابي تحوم كالغربان حول أسوار بغداد، وتنتظر خلاياه النائمة ساعة الصفر للانقضاض على كل ما هو جميل وأصيل ومقدس في هذه المدينة الخالدة. وبينما كان العراق كله يعيش على وقع محنة تساقط مريع لثلاث محافظات عراقية، ويتلقى أهالي بغداد سؤلا واحداً: هل سقطت بغداد بيد تنظيم داعش؟
وفيما يسود جو من العتمة واليأس، فإن النجف كانت يقظة، وثمة رجل يحمل شعاع الأمل وكلمة الخلاص، فتوى الجهاد الكفائي التي أطلقها المرجع الأعلى السيد علي السيستاني التي غيّرت مجرى التأريخ وقلبت كل الحسابات، اذ هبّت على إثرها الملايين للدفاع عن الوطن والمقدسات.
وها نحن بعد سبع سنوات نمارس حياتنا، نبني ونختلف ونتصارع أحياناً، لكن أولادنا يذهبون بسلام إلى مدارسهم، يحملون جذوة الأمل وثمرة الفتوى بصناعة مستقبل عراقي باهر، ترى ﻟﻮ ﺗﺄﻣﻠﺖ ﻤﺸﻬﺪ بغداد بدون أن تطلق المرجعية دعوتها للجهاد الكفائي، وبدون أن تمتلئ ساحات الجهاد بمقاتلي الحشد الشعبي، بينما تستمر قنوات الإعلام المعادي بإقناعنا بأن “الثوار” باتوا على أسوار بغداد، أفضل سيناريو يمكن تخيله أن مسلحي داعش، ذوي الثياب الرثة واللهجات المختلفة، ﻳﺘﺠﻮﻟﻮن ﻓﻲ شوارع، بغداد وليس صعباً أن تخمن إلى أين سيتوجهون أولاً، بالطبع إلى الكاظمية المقدسة ليقيموا هناك حفلة دم على غرار جريمة “سبايكر“، ثم يفجرون مرقدي الإمامين موسى بن جعفر ومحمد الجواد عليهما السلام، قبل أن يعبروا جسر الإمامين ليسووا مرقد الإمام أبي حنفية النعمان رضي الله عنه مع الأرض.
إذا كنت محظوظاً وتمكنت من تصوير المشهد، سترى جارك الهارب وقد نحره داعشي شيشاني أوصيني، وبطحوا نساءه وأطفاله مع حشد من أهالي بغداد واقتادوهم إلى إحدى شرائع دجلة، ربما في مرسى الزوارق ليقيموا مجزرة تصبغ مياه نهر دجلة بالأحمر القاني.
ﺳﻴﻜﻮن ﻣﺜﻞ ﻫﺬا اﻟﻤﺸﻬﺪ ﺧﺒﺮاً أول في وسائل الإعلام، فيما مذيع قناة (صفا) يصور المشاهد ليبثها مباشرة على قناته.
كما كنا سنشاهد التلفزيونات حيث يظهر رئيس دولة كبرى –أو صغرى– يدعو إلى اجتماع عاجل لمجلس الأمن، ويحمّل بيانه الحكومة العراقية “الطائفية” مسؤولية المجازر التي تشهدها بغداد..
سيهرب الفقراء خارج بغداد، ولكن لا أمان لهم، فلربما يخرج وحوش داعش لينحروا من تطوله أيديهم، لكن قد ينجو أثرياء بغداد وعائلاتهم إن حانت لهم فرصة للهروب إلى خارج البلاد، وأعلام داعش تعتلي وزارات ودوائر المنطقة الخضراء، حيث يجلس أبو قتيبة التونسي وأبو عمر الشيشاني في مجلس الوزراء، بينما تعلن قناة صفا عن تحرير بغداد من الصفويين!
لن يصبر البغدادي وأبو حفصة وكربلاء على بعد ساعة ونصف الساعة عنهما، من دون أن يرسلا لها جيشاً من المفخخات لتمحو واحدة من أقدس البقاع في العراق من الخارطة.
مشاهد جزِّ الرقاب ستكون خبراً عادياً في الوكالات، وقبل أن تصل خنازير داعش إلى النجف تنشر وسائل الإعلام المعادية شائعاتها بأن النجف المقدسة قد سقطت، وفجّر الدواعش ضريح الإمام علي عليه السلام.
لنفترض أنك مازلت حياً ومازلت تراقب الدم واﻟﺨﺮاب، وترى سيارات “داعش” ذات الدفع الرباعي ومصفحاتهم تسحق الرؤوس وهي تغدو وتجيء، لن تحصل حتى على فرصة أن تنقذ ابنك وتسحبه من بين الجثث، محظوظ لو حصلت على يده تذكاراً لأمه المفجوعة، ومنعت داعش أن تسوّي جثته بالأرض، كما أنك لن تحصل على فرصة لتنقذ جثة أبيك وتظفر بتشييعها.
عليك أن تتحمل –مرغماً– مشاهد اﻟﻘﺘﻠﻰ ﻣﻦ ﺟﻴﺮاﻧﻚ وأﺑﻨﺎء ﻋﻤﻮﻣﺘﻚ ﻓﻲ الكرادة والأعظمية ومدينة الصدر والدورة والغزالية، هذا إذا سلم ملاذك ولم تقتحمه قذيفة آر بي جي وتحطمه على رأسك.
ﻳﻮﻣﻬﺎ ﻟﻦ ﻳﻨﻔﻌﻚ اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻋﻦ اﻟﻤﺆاﻣﺮة، ولن ينفعك لعن الحكومة والخونة والدول التي غدرت بالعراق، ولن ينفعك أن تتبرأ من بعض أبناء وطنك.
ولن يسمنك أو يغنيك اجتماع المنظمات الدولية والإقليمية لتؤبن العراق في مجلس عزاء على مستوى وزراء الخارجية، أو على مستوى القمة بحضور أمين عام الأمم المتحدة، وكرسي العراق محل جدل بين القادة حول من يمثله: الخليفة أبو قتادة أم أبو عمر الشيشاني، أو أن يترك فارغاً بدون علم العراق.. أو علم الخلافة الداعشية.
أما إذا نجوت وعبرت الحدود واستقبلت في مخيماتها، ووجدت ذوي الثياب الزرق يهنئونك بالسلامة ويطلبون منك أن تقف بالطابور لتحصل على قنينة ماء، ففي تلك اللحظة ستعرف أنك أضعت أشرف الأوطان، وحتى قنينة الماء ربما لن تحصل عليها إذا ما سولت لك نفسك أن تتهم جهات ما بتورطها في مؤامرات ضياع وطنك.
ستتذكر حماقاتك وأنت تستمع إلى وسائل الإعلام المعادية وتشارك، بوعي وبدونه، بتأجيج الحرب الطائفية، وتضرب رأسك بأقرب حائط –إن وجد– لأنك تخاذلت وجبنت وصدقت بشائعات “الدواعش“, وﺗﺘﺬﻛﺮ كتاباتك على “الفيسبوك” وأنت تحرض على الفتنة وتعلق: الدم الدم الثأر الثأر، وتسهم بترويج الأكاذيب التي تبثها داعش.
ستراقب الفضائيات لتجد تفاصيل يومك على شريط الأخبار، وربما تتصدر صورة طفلك وهو يتلظى من الجوع –بعد أن جف اللبن في ثدي أمه– نشرة الأخبار، بينما تهبط ممثلة عالمية شقراء مع كلبها بطائرة هليكوبتر وهي تحمل معها شحنة فاسدة من الأدوية كتلك التي أهدتها إيطاليا للناصرية وثبت أنها تحمل فيروس الإيدز، وقبل أن تغادر طائرتها تلتقط مع طفلتك صورة تذكارية تنشرها على تويتر أو أنستغرام.
وﻣﺜﻠﻚ ﻣﺜﻞ ﻛﻞ اﻟﻌﺮاﻗﻴﻴﻦ، بسنّتهم وشيعتهم، بمسيحييهم وكردهم، وباقي المكونات، ﺳﻮف ﺗﻜﺘﺸﻒ أن ﻛﻞ اﻷﻃﺮاف ﻣﺴﺆوﻟﺔ ﻋﻦ ضياع بلدك: الدول المجاورة، اﻟﺤﻜﻮﻣﺔ، ونواب البرلمان، ورجال الدين الطائفيين، والتعصب الأعمى، ووسائل الإعلام المعادية والغبية. على حد سواء.
هذا إن حصلت على فسحة من الوقت لتتأمل وأنت مشغول في البحث عن ﺧﻴﻤﺔ ﻓﻲ ﻣﻌﺴﻜﺮات اﻟﻼﺟﺌﻴﻦ وتنتظر زوجتك حصتها في ﻃﻮاﺑﻴﺮ اﻟﻤﺴﺎﻋﺪات اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ، وسيتحول ملايين العراقيين، الذين تجزّ داعش رؤوسهم وترميهم في نهري دجلة والفرات، إلى مجرد أرقام لا تحرك ما يسمى بـ “الضمير العالمي“.
بالطبع هذا هو أفضل سينارﻳﻮ يمكن تخيله بلا أدنى شك، لكنه يحدث في بلد لا يعي أهله أن النار المشتعلة قربهم لن تصلهم، ويحدث في بلد ليس ببلد الإمام علي عليه السلام والائمة الأعلام، ويحدث في بلد بلا مرجعية رشيدة كمرجعية سماحة السيد علي السيستاني –حفظه الله ورعاه– وبلا رجال كرجال العراق، من أبطال الجيش والحشد الشعبي وقوات مكافحة الإرهاب، الذين استرخصوا الدماء لحفظ العراق الغالي ومقدساته.
ولهذا، فليس بوسع الأعداء –مجتمعين– أن ينالوا من وطن المقدسات، لأن العراق كله صار جيشاً منيعاً وحشداً شعبياً، وأن بغداد ستظل آمنة غافية تحرسها عين النجف وترعاها، وتفتديها ذي قار وصلاح الدين والبصرة أيضاً، والأنبار تحميها.