نرمين المفتي/
«لا تجزعْ من جرحك، وإلا فكيف للنور أن يتسلل إلى داخلك؟» مقولة مولانا الروميّ، كانت معي في كلّ لحظة في جولتي في المناطق المحرّرة من الموصل ومخيمات النازحين. نعترف بأن جرح العراق الكبير سمح لنور مثل عمليات الموصل أن يتسلل إلى دواخلنا ليشكّل أهم خطوة نحو الوحدة الوطنية.
لن أكتب هذه القصة بتسلسل المناطق ومن قابلت، إنما سأشير إلى لقطات جعلتني أعود متفائلة برغم الظروف التي تحيط بنا وتحاول، أحياناً، أن تدفعنا إلى اليأس.
لقطة أولى
في بلدة كرمليس المحررة، المستشفى الميداني للفرقة التاسعة:
يتمركز المستشفى في بيت مواطن مسيحيّ اسمه (اسطيفان)، سمح للطبابة، كما يقول آمرها العميد «رعد محسن» أن تكون في بيته الذي تحوّل إلى مستشفى حقيقيّ فضلاً عن أربع عيادات وسيارة وخيمة تم تجهيزها للنساء بإشراف آمر الطبابة وإدارة طبيبتين من مديرية صحة نينوى، لم أتمكن من اللقاء بهما لانتهاء دوامهما الرسميّ.
في سجل حركات المستشفى، على مدى يومين كان هناك جريحان عسكريان، استشهد أحدهما. (كانت جولتي قبيل بيان يونامي الذي أشار إلى عدد مبالغ به جداً للضحايا من العسكريين) وما رأيته وسمعته يكذّب البيان تماماً.
العميد رعد، الطبيب الذي عاد إلى العراق مع عائلته برغم حصوله على لجوء في دولة أوروبية إبان الحرب الطائفية، قال بأنه لم يتمكن من تحمّل الإحساس بأن العراق يحتاجه. أغلق عيادته والتحق بواجبه العسكريّ، حدثني عن الجرحى المدنيين الذين يتعرضون لقصف الظلاميين أثناء النزوح وأنهم في وحدته يقومون بجمع ما يقدرون عليه من مبالغ لإرسال الجرحى المدنيين الذين يحتاجون إلى عناية مركزة إلى المستشفيات الخاصة في أربيل على نفقتهم الخاصة.
(الوضع في المستشفيات العامة يحتاج إلى الكثير من الاهتمام خاصة إنها تعمل فوق طاقتها الاستيعابية) وانتقد الناشط المدنيّ «مصطفى سعدون» دور وزارة الصحة وأشار إلى ان مستشفى طوارئ أربيل في غرب المدينة لا يوجد فيه أي شيء مع غياب الكوادر الطبية والأدوية.
«لا مجال للطائفية في العرف العسكري»، قال وأضاف «لا انتماء لدينا سوى إلى العراق».
لقطة ثانية
الجندي «صلاح ميخائيل» مسيحي من بلدة كرمليس؛ أرغم أهله على الهجرة، بعد احتلال الموصل في حزيران 2006 وبقي هو في وحدته العسكرية، قاتل في جميع معارك التحرير التي دخلتها فرقته. تحدث بوجع عما آل اليه الوضع في العراق. كان يحتفظ ببعض أمل، لكن عمليات الموصل منحته شحنة أمل أكبر ويأمل أن تحقق أهدافها بلمّ شمل العراقيين دون طائفية دينية أو عرقية، عبّر عن أمنيته بخوف وكأنه يخشى أن تسرق! وتساءل إن كانوا يدعون العراقيين لأمانيهم وهو أن يبقى في العراق؟
اللقطة الثالثة
سيدتان تقومان بتنظيف كنيسة «مارت باربرة» التي تضررت كثيراً قبل تحرير كرمليس وقام داعش بحفر خندق في إحدى قاعاتها. قال ماجد، أحد عناصر حماية الكنيسة، بأن ما حدث ضد العراق ستكشفه الأيام ومن كان السبب، سألته عمن يكونون؟ قال قطعاً ليسوا عراقيين، إنما قوى عظمى ودول جوار، لكلٍّ مصلحته. وأضاف جندي كان يسمعنا أن لا ننسى أيضاً المحاصصة المقيتة التي حاولت أن تفرق العراقيين.
في الكنسية التي تضررت غالبية معالمها وأيقوناتها، حفرة صغيرة بحجم كفّ غير عميقة تقع على جدار القاعة وبينها وبين الحائط الذي يقابله مسافة 3 أمتار تقريباً، هي حفرة للأمنيات. يقف المتمني قرب الحائط ويغمض عينيه ويسير نحوها، إذا تمكن من وضع كفّه عليها، ستتحقق أمنيته. حاولت شخصياً لثلاث مرات وفشلت.. وسأحتفظ بأمنيتي في سرّي.
اللقطة الرابعة
أبنية مدمرة، من بينها معمل خياطة برطلة. بناية كبيرة، لم يسلم منها سوى هيكل حديدي عملاق وبوابة ترحب بالزوار، لم يتبقّ عليها سوى كلمة (الموصل).
حدثني كاكا «آرام عبد الغني» الذي رافقني من شبكة الإعلام العراقيّ – مديرية إقليم كردستان، ونحن في طريقنا إلى «خازر» عمّا جرى في هذه المنطقة في آب 2014، كان يصور بالكاميرا ويحتفظ بالمشاهد الموجعة جداً في عينيه. أعاد عرضها لي بالكلمات وكأنني أرى ما حدث، خاصة إن بعض الدمار يكمل صور كلماته. في الطريق، قرى عاد إليها سكانها بعد تحرير البيشمركة لمناطق عديدة في خازر في أيلول وتشرين الأول 2014. ومع الاستمرار بإعادة إعمار جسر الخازر ومشاهدة محال صناعية كانت تستخدم لتفخيخ السيارات وتصنيع العبوات الناسفة، تمنح القرى التي حررت سابقاً وحالياً مشاهد حياة.
اللقطة الخامسة
من الشارع العام، التقط صوراً لمخيم خازر الذي أنشئ لاستقبال النازحين مع بدء عمليات الموصل.
المشهد من بعيد، جميل، بقع بيض وزرق وسط أرض منخفضة وكأنه مخيم سياحي على أرض مفتوحة ينتظر ساكنوها هطول الثلوج للاستمتاع به. ولكنّ المشهد عن قرب موجع جداً.
زحام أكبر من الطاقة الاستيعابية للمخيم. منظمات عراقية وعربية وأجنبية تعمل على مدار الساعة لتلبية الاحتياجات وحراس عند البوابة ونساء ورجال بين جهتي السياج وصغار يلعبون. قرب السياج تماماً من الخارج، تأسستْ سوق متوسطة الحجم مع بدء وصول النازحين في الأسبوع الأول لبدء العمليات. توفر للعوائل احتياجاتهم التي لا توفرها المعونات.
سجى، 11 سنة، كانت تحمل طبقة بيض وتسحب شقيقها الصغير حمزة الذي يتوقف بين خطوة وأخرى. كانت سجى في الصف الرابع الابتدائي، وقرر والداها عدم إرسالها إلى المدرسة مع بدء الدوام في أيلول 2014. وكما شرح لها والدها أن الوضع خطير والمناهج التي وضعها داعش ليست عراقية. تدخل إلى المخيم. بينما يقف محمد مع زوجته وصغارهما بانتظار مقابلة أهله الذين افترق عنهم منذ حزيران 2014. سبقت الدموع كلماته التي لم يجدها للتعبير عن مشاعره. مثله، المئات من العوائل التي نزحت إلى أربيل وأتت للقاء مع الأحبة طال لأكثر من سنتين.
هناء، ممرضة، أعدم داعش ابنها الشرطيّ واعتقلها لخمسة أيام. قالت إنها تستطيع أن تساعد النازحين طبياً وإنسانياً، وتمنت لو يتم السماح لها. تسكن مع زوجها وأحفادها اليتامى في خيمة، ويسكن ابنها وعائلته في خيمة أخرى. قالت لا يخيفها سوى البرد في الليل، هناك مدفأة نفطية، لكن النفط المستلم قليل، وكذلك الخوف من رياح في الليل قد تتسبب بكارثة، خاصة إن الخيم بلاستيكية. وقالت إن عائلتها وعوائل أخرى مستعدة أن تعود إلى مناطقها التي تحررت وتتمنى أن تتم الموافقة على طلبهم هذا.
أحمد، شابّ في العشرين من عمره، جلدته عناصر داعش لمرتين بسبب اللحية، قال إنه كان قد قرر أن يعاندهم ولكن مع إعدام ابن عمه الذي أرغم مع العشرات على حضور إعدامه رمياً بالرصاص، قرر عدم الخروج من البيت.
اللقطة السادسة
فيصل، شاب وصل إلى المخيم من منطقة حيّ السماح، الساحل الأيسر، المحررة ليبحث عن أهله الذين نزحوا. قال إن جهاز مكافحة الارهاب الذي حاولت الشائعات أن تخيفهم من ضباطه وجنوده، قام بتوزيع المياه والمواد العذائية لهم، وعرف فيما بعد أن ما تمّ تسلمه ليس معونات، إنما هذا الجهاز يتقاسم معهم اللقمة وشربة الماء، خاصة إن المعونات لم تتمكن من الوصل إليهم. ونصب هذا الجهاز مولدات كهرباء ومضخات مياه في عدد من الأحياء المحررة، وأكد عدم وصول أي جهة من الحكومة المحلية للمحافظة إليهم لمساعدتهم.
فيصل الذي كان في كلية الحقوق التي ألغاها داعش، قال إن الجيش بمختلف صنوفه نجح في المحافظة على أرواح المواطنين وممتلكاتهم، بينما يستمر داعش باستهدافهم بالسيارات المفخخة والهاونات.
وتحدث فيصل بألم عن مرقد النبي يونس والعشرات من الجوامع القديمة التي سويت بالأرض، فضلاً عن تدمير العشرات من المواقع والشواخص الأثرية ومتحف الموصل، وتمنى أن تقوم الجهات الرسمية المختصة مع اليونسكو ومنظمات عالمية أخرى بالتخطيط لترميمها قدر الإمكان.
اللقطة السابعة
«أيدن»، جنديّ تركماني، يقاتل في المحور الجنوبيّ، بينما يقاتل شقيقه في المحور الغربي ضمن قوة التركمان – أحد فصائل الحشد الشعبي ـ، قال إنه من تلعفر وإن اتصالاته بمن بقي من أهله في البلدة تؤكد أن داعش تحاصرهم ليكونوا درعاً بشرياً، وإن هناك من نجح في المغادرة ولكنْ إلى الصحراء. وإن هناك جهوداً لتأسيس مخيم لهم. ونقل عنهم قولهم بأن الأخبار التي يسمعونها عن الانتصارات المتحققة مع المحافظة على أرواح المدنيين، جعلتهم ينتظرون دخول القوات المسلحة، وإن دقة العمليات التي نفذها الحشد الشعبي أكدت لهم أنهم بانتظار إخوتهم لإنقاذهم وتحريرهم.
… ويستمر النور يتسلل من الجرح إلينا..