ارشيف واعداد عامر بدر حسون /
كانت تلميذة لم تبطرها أبهة الإمارة بل زادتها تواضعاً، ولم يصرفها نعيم المجد الأثيل عن إيفاء دين العلم فكانت أحرص ما تكون على القيام بالواجب وحفظ الوقت واستخلافه.. ثم كانت أميرة شابة تستقبل الحياة في كثير من الثقة بها والميل اليها والاطمئنان لها، وفي بعض اولئك صارف لمثلها عن شواغل الحياة، ولكنها كانت أكبر من كل أولئك فما أغفلت يداً تستطيع إسداءها ولا قعدت عن عمل نبيل تستطيع أن تأتيه حتى لكأنه قد بات شغلها الشاغل وسلوتها الوحيدة.
ثم أصبحت ملكة.. على مفرقها تاج شعب متوثب ذي طموح متعال تحيطها قلوبه وتحف بها افئدته فما ألهاها الملك عن واجبها في رعاية هذا الشعب والحدب عليه بل كأنها أحسست أن الملك قد فرض عليها هذا الواجب وأنها إن كانت تأتي مثل هذه الأعمال من قبل طبيعة وسجية فقد جعله الملك في عنقها واجباً وفريضة فمضت حازمة غير متلكئة تعمل وتوحي وتوجه فيقبس العاملون منها عزيمة وهمّة في رفع دور العلم والخير.. وتوجت جهادها العلمي بالكلية التي تتشرف بحمل اسمها الخالد أمينة على رسالتها المقدسة في تمزيق ليل هذا الشعب بنور العلم والأخلاق، فقد كانت تؤمن بأن العلم الصحيح والخلق المتين هما المصباح الذي يشرق على طريق بعثنا الجديد..
ثم وقعت الواقعة وافتقدت الزوج الذي كانت تستظل بفيئه حتى حسره الدهر عنها، وها هنا يبدأ الصراع الجديد وهنا تنكشف الحجب عن الجانب الآخر من جوانب هذه النفس الكبيرة، وكان التساؤل مظهراً جديداً من مظاهر النبل من ذلك القلب الكبير.
الملكة لا تطأ السرير بل تتوسد الأرض، والملكة تمتنع عن الطعام تريد أن تحرمه على نفسها حتى يلفها الليل السرمدي..
ويشفق أخوها فيضمها الى صدره يبكي وتبكي معه، يسألها العودة الى إصابة بعض الماء والغذاء لتمسك عليها الحياة لا لأجل مخلوق في الكون بل لأجل فيصل..
وهنا يستيقظ الرجاء العميق، وفي فيض من الدموع والألم يتعاهد الأخوان على أن يقفا حياتيهما على تنشئة فيصل وإعداده.
وتمضي الأيام عجلى ويهدأ الجرح ويتفتح القلب الكبير لأمل جديد هو فيصل.. فتجد في هذا الأمل واجباً جديداً يكرس جهادها، هذه المرأة التي تأبى المقادير إلا أن تكون حياتها جهاداً كلها فتنفق ليلها ونهارها في رعاية أمل شعب ورجاء أمة.
وفي زحمة هذا الجهاد ترتحل الى ديار الغربة مرافقة فلذة كبدها في دراسته.. واذا بالعرب يُمتحنون كلهم في فلسطين.. واذا بالملكة تتجه بقلبها وإحساسها وفكرها وشعورها الى حومة ذلك الجهاد تتبع مراحله في نغم المذياع وأمامها خارطة لفلسطين.
وكان تتابع سير الحرب في فلسطين يضطرها الى السهر يومياً حتى بعد منتصف الليل.. فاذا هدأ الكون قامت تتوضأ ثم تتوجه الى الله تعالى تتلو في كتابه العزيز سائلة إياه أن ينصر حق العرب.
لقد كانت تتمسك بالدين وتعتز بمثله كما كانت تتابع الحركة العلمية الحديثة بذكاء مفرط ومنطق سليم، فكأنها أبت إلا أن تضم الكمال من أطرافه جميعاً..
وهكذا حاولت وجاهدت أن تنشئ المليك اليانع ولدها الحبيب.
لقد كانت ترعاه في كل لحظة بتوجيهاتها وتزداد تفاؤلاً وسروراً كلما شاهدت أثر ذلك، وأذكر اليوم الذي شهدت فيه بإنجلترا قبل مرضها بأسابيع قليلة حفلاً مدوياً كان فيه ولدها المليك من طلابه، ورأيت كيف أن فيضاً من السعادة يغمرها وهي تبصر المليك يرتقي منصة الحفل مع أترابه متكامل الفتوة.. وحدثتني عند العودة الى البيت بأن حبها لفيصل قد غدا حباً عميق الغور بعيد الغاية، ففهمت ما تعنيه بأن فيصلاً لم يعد طفلاً بل غدا شاباً ورجلاً قد تحققت فيه مثلها فما حاد عما رسمته له من مُثل وأهداف..
وكان تعلقها بأخيها شديداً إذ كانت ترى في سموه العون وخير الصديق.. وأذكر ليلة أصيبت بأزمة من الأزمات المرضية الحادة التي كانت تعاودها فقالت لي متأوهة: “عما قريب سأفارق الأحباء: فيصل وعبد الاله..”
وقد كانت في كل أحاديثها لا تذكر أحدهما إلا مقروناً بذكر الآخر..
وقد تحققت نبوءتها ففارقت الحبيبين فيصل وعبد الإله وفارقت الأهل وفارقت شعبها العزيز الذي تركته دامي القلب حزين النفس يذكرها بأكرم ما تذكر به الملكات.
فلقد كانت نبراساً للحياة في أسمى جوانبها وأكثرها اشراقاً وكان فيها من كل معنى نبيل شيء لأنها كانت كل شيء لهاتيك المعاني النبيلة من معاني الحياة: معنى البر ومعنى الرحمة ومعنى التواضع ومعنى الكبر ثم معنى الصبر والألم والجهاد.
وكأي ممن يمر به معنى من هاتيك المعاني فينبثق نوره فيه ثم يستحوذ عليه فيخلقه خلقاً جديداً فاذا اجتمعت كل هاتيك المعاني في قلب من القلوب فنهض بها وصبر عليها فقد سما وتسامى حتى لا يوجد بعد منزلته مرقى من مراقي السمو.