رجاء خضير /
الاختيار قد يكون صعباً, تحفّهُ المخاطر من كل صوب، لكن القلب حينما يختار ويحب ينتصرُ عليها كلها. وحينما تمسك خيط الحب بيدك تحس أنك أمسكت بزمام الزمن وكسبت لجام فرس حبكّ الجامح…
آه ايها القلب اللعين, وبعد، أين ستأخذني وماذا سأرى بعد أن انقطعت كل الخيوط؟
نعم تقطعت الخيوط وفقدت لجام فرسي والى الأبد!!
من قرية صغيرة في أطراف بغداد، ومع أننا قريبون من العاصمة إلا أن عادات الريف والتقاليد تحكمنا. بمشقة أقنعتُ أهلي بإكمال دراستي، ساعدتني بذلك أمي وابن خالتي طالب الكلية. وافق والدي، ولكن بشروط وافقت عليها قبل أن أعرفها… لم أسمع منها شيئاً سوى أن اذهب بالعباءة الى الجامعة. قبلتُ كل ما قالهُ والدي… كيف لا وهي فرصتي للقاء حبيب قلبي ورفيق طفولتي ابن خالتي, فقد أحببنا بعضنا دون أن نبوح بذلك, كنتُ اقول لنفسي “إن الحب لا يحتاج الى وسيلة لنعرفهُ, الحبُ يتحدث عن نفسه دون مساعد”.
لاحظت أمي اهتمامي به، فرحت, لكن الخوف والقلق كان واضحاً عليها, مرة سألتها: لا أعرف يا أمي سر قلقكِ عليّ, فهو ابن أختكِ؟
نصحتني أن لا أقول شيئاً عن هذه العلاقة لأي شخصٍ مهما كان: خوفاً عليّ,
وعدتها بذلك ولا أعرف لمَ كل هذا الخوف!
في إحدى الأمسيات الشتوية زارنا عمي وتحدث عن أمورٍ عدة مع والدي, ثم قال له: متى نعقد قران الأولاد, فقد كبروا وآن الأوان لتزويجهما، وبإشارة من أبي خرجتُ أنا وأمي من الغرفة وبقيا بمفردهما.
سألتُ أمي عن أي أولاد يتحدث عمي, ومَنْ من أخواتي يريدها عمي لولده المدلل:
اسكتتني وسحبتني الى غرفتي وقالت: هذا سر خوفي, فمنذ كنت صغيرة اتفق الكبار بأنك لفلان! ابن عمك! وهذا هو المقصود من كلام عمك مع والدك!
ضحكتُ باستهزاء: يا أمي نحن في الألفية الثالثة, التطور والتحضر يسيران أسرع من البرق, ونحن مازلنا نفكر بعقل متجمد ونسمح للتقاليد والأعراف التي تسببت بمشاكل لا حصر لها يا أمي أن تحكمنا وتسيطر علينا، أنتِ تعرفين يا أمي منْ أحب!!
فتح والدي الباب ودخل علينا ليخبرنا مايريده عمي! بكيتُ وتوسلت بوالدي أن يرفض الموضوع كله!
نظرة قاسية منهُ الى أمي جعلتها تخرج من الغرفة وتتركني أتصارع مع خوفي من والدي, وخوفي من المستقبل المجهول! لم أسمع حديث أبي معي لأنني كنتُ تائهة وخائفة ولا أعرف كيف تجرأت وماذا اعتراني حينما قلت له: أنا لا أرغب بالزواج من ابن عمي, أنا أريد إكمال تعليمي, ثم أنا اعتبره أخاً لي.
قاطعني وقال… لقد أجلتُ الموضوع وطلبت من عمكِ أن نترك الأمر للزمن والأقدار هي التي تقرر!!
ارتحتُ لحديث والدي، وبعد خروجه من غرفتي اسرعتُ الى أمي لأزف لها خبر ماسمعته عن لسان والدي، لم تفرح ولم تعلق بأي حرف. ومن يومها لاحظتها تبتعدُ عني ولا تحدثني إلا نادراً فطلبت من شقيقتي معرفة السبب. بعد أيام عرفتُ أن والدي قد أقسم عليها بالطلاق إن هي ساعدتني في أي أمر ولاسيما بمسألة الزواج, وهنا قررتُ مع نفسي مصارحة ابن خالتي بالحب الذي يجمعنا وما هو موقفه مني, كي أكون على بيِّنة من أمري…
ذهبت الى الكلية التي يدرسُ فيها وصارحته بكل شيء وتحدثت عن ابن عمي ورغبته بالزواج مني, لم يفاجأ وكأنه يعرف كل شيء.
وسألتهُ عن موقفهِ هذا فأجاب أن ابن عمك قد هددنيّ مرات عدة بالابتعاد عن زيارتكم والاهتمام بكِ؟
قلتُ: ولمَ لم تقلْ ذلك من قبل؟
سمعتُ إجاباتهُ المنطقية والمتزنة, ونصحني أن أسيطر على أحاسيسي تجاهه ريثما يتخرج, لكي يصبح مؤهلاً للتقدم لخطبتي, ومن ذلك اليوم ابتعدتُ عنه قليلاً, كي لا أثير قلق أمي وخوفه هو…
وجاء اليوم المنتظر وعلت الفرحة ببيت خالتي بقرب تخرجه، وشاع الخبر في قريتنا والجميع فرح بهذا الأمر, إلا بيت عمي.
قررنا الذهاب الى بيت خالتي لتهنئتهم بهذه المناسبة, وفجأة دخل ابن عمي علينا، وحينما عرف اين سنذهب, منعني وأمام أهلي جميعهم من الخروج, وتجادلنا طويلاً وأفهمته أنني لا أرغب به زوجاً كي يمارس سلطته عليّ و…و…ولكي لا يتطور الموضوع بيننا ويسمع والدي رفضت أمي الخروج وأجلت زيارتها الى بيت أختها بسبب هذا الطائش، زاد حقدي عليه, ولم أستطع النظر الى وجهه, عرف هو ذلك فأخذ يفتعل المعارك مرة معي ومرات عدة مع ابن خالتي، الأمر الذي دفع ابن خالتي أن يتقدم لخطبتي وبحضور عمي الذي رفضه علناً وأفهمهم أنني خطيبة ابنه ومنذ الصغر!
خرجوا من بيتنا خائبين, يجرون خطواتهم بتثاقل, وكان هو يلتفت يميناً وشمالاً يبحث عني وكأنه يسألني: “سكوت والدك هذا,لاينم عن خير أبداً”…
خرج الجميع من بيتنا ودخلتُ على والدي في غرفة الجلوس وذكرتهُ بأنني إنسانة ومن حقي اختيار شريك حياتي و… فما كان منه الا أن صفعني وقال لي ما سر تعلقك بابن خالتك هكذا, أريد أن أعرف الحقيقة: أنتِ لابن عمكِ, ستتزوجينه قريباً!!
خرجت من غرفته وأنا أجهل كيف أتصرف مع هذا الموقف برمتهِ!!
نصحتني أمي أن أقبل بكلام والدي وأنسى حب ابن أختها… لم اسمع بقية كلامها لأنني كنت شبه منهارة…
في إحدى الأمسيات أقيمت حفلة كبيرة في بيت خالتي دعيَ اليها الكثيرون بمناسبة تخرجه…
لم نذهب اليهم خشية تطور الموقف بينهم وبين بيت عمي, كنا نسمع الأغاني عبر مكبرات الصوت وايضاً صوت الإطلاقات النارية، وهكذا هي العادة في أفراح القرية, بعدها سمعِنا صراخاً وعويلاً أسرعنا نحو الباب فإذا بالمدعوين يفرون من الحفلة وكأن شخصاً ما يطردهم…
سألت أمي أحدهم فأجابها أن ابن أختك قد قُتل من قبل ابن عمي….
اسرعت أمي ونحن وراءها لنرى صحة ما قيل… فرأينا حبيبي مضرجاً بدمهِ أمام انظار الجميع المذهولين… غير مصدقين ما حدث وزاد إطلاق النار من قبل أولاد خالتي الذين أسرعوا وراء ابن عمي, ولكنه اختفى بلمح البصر…
حفلة تخرجه صارت حفلة وداعه وتشييعه الى مثواه الأخير…
أما الخلافات العشائرية فازدادت صعوبة وتعقيداً… أما أنا فيعلم الله حالتي وصعوبة الموقف عليّ, واقسمتُ أن لا أصبح زوجة لأي شخص بعده… وأنا أتحمل نتيجة ما أقول!