ارشيف واعداد عامر بدر حسون /
حكم القدر على الكاتب المسرحي الفذ الأستاذ توفيق الحكيم بك أن لا يكون موسيقياً مع ولعه بالموسيقى منذ نعومة أظفاره، وأن لا يكون شاعراً وقد غوى الشعر وعالجه منذ حداثته، وأن لا يكون مصوراً وقد شغف بالتصوير ومارسه، واذا بالقدر يهيئ له منذ الشباب أن يكون كاتباً مسرحياً، فوضع وهو طالب في “مدرسة الحقوق السلطانية” أربع مسرحيات هي: خاتم سليمان، وعلي بابا، والعريس، ثم المرأة الجديدة… وما كاد يظفر باجازة الحقوق حتى افتتح مكتباً للمحاماة في شارع محمد علي، ولكنه بدلاً من التفرغ لمهنته اصيب بحمى الفن، وكانت غرفته في مكتب المحاماة بمثابة الهيكل المقدس الذي يفزع اليه، ومن ينبوعه ينهل النشاط والحيوية، وكانت آلهة الفن اذا باغتته بإلهامها، استأسد بعد دعة فوضع مولوداً جديداً من الفن الرائع.
ومن الغريب أن توفيق الحكيم لم تكتحل عيناه بمشاهدة هذه المسرحيات الأربع تمثل، فقد باعها لمسرح حديقة الأزبكية ثم سافر الى باريس حيث سكن حي الفنانين والمفكرين –مونمارتر- اربع سنوات مثلت في خلالها هذه المسرحيات أكثر من مرة.
كيف وضع “أهل الكهف”؟
كتبت مسرحية “أهل الكهف” في نفس توفيق الحكيم منذ أن سمع السورة تتلى يوم الجمعة في المسجد. كان الفقيه يرتل والشاب الصغير ساهم شارد، يرى في الهواء وظلماته وفجواته ويتصور أصحاب الكهف جالسين القرفصاء وكلبهم على مقربة منهم يتشاطرهم عين النصيب، كانت تلك الصور تنسج خيوطها في نفسه يد مجهولة منذ عهد الحداثة، حتى اذا استقامت له مقومات التأليف كتب القسم الأول من المسرحية عام 1928 في مقهى صغير على ساحل البحر بالاسكندرية والقسم الثاني في مقهى سبيرانو بباريس.
شهرزاد
وكتب مسرحية “شهرزاد” في ثلاثة مقاه مختلفة بحي مومارتر هي: القط الأسود، والأرنب الخفيف، والفأر الميت.. وكانت الأوقات المفضلة عنده للكتابة بعد منتصف الليل فيجلس الى المائدة وأمامه كاس من شراب البورتو فيظل يكتب ويكتب الى أن يدركه الصباح فيسكت عن الكلام والإلهام ثم يطوي أوراقه ويلقي بقلمه وينهض لينام النهار…
في باريس كتب ايضاً: “عودة الروح” ومسرحية بالفرنسية: “أمام شباب التذاكر”، نقلها الى العربية الأستاذ الصاوي بك ونشرها على صفحات “مجلتي”، اما بقية مسرحياته كـ “سر المنتحرة”، و”حياة تحطمت”، و”الخروج من الجنة”، و”الزمار”، فقد كتبها حين كان وكيل نيابة في الريف، كتبها في أوقات الفراغ فجاءت صورة مطابقة للجو الذي يحيطه.
كيف يكتب..؟
يقول الأستاذ توفيق الحكيم بك:
إنه لا ينشط للتأليف والانتاج الا في فصل الخريف، فهو موسم المحصولات الزراعية عند القرويين، كما هو موسم المحصول الفكري عند المؤلفين، والسر في ذلك أن المؤلف في الربيع يحمل الأفكار كما تحمل الأزهار، اما في الخريف فتتساقط الثمار فوق القرطاس.
والواقع ان توفيق الحكيم لا يستطيع الكتابة الا ومعدته خالية من الطعام، اي قبل الغداء او العشاء بساعتين، وأحسن الأمكنة المفضلة عنده للكتابة في مقهى، يعج برائحة التبغ واصوات الباعة، وقد يختفي عن أصدقائه أياماً وأسابيع فاذا فتشت عنه ألفيته قابعاً في ركن مقهى، ناشراً على المنضدة أوراقه وأفلامه.
وهو يفضل عادة ان يكتب بقلم “كوبيه”، اما اذا كان في منزله، فهو يعمد الى سماع اسطوانات لبيتهوفن او موزارت حتى يشعر بالجو الشعري الحالم الذي تبعثه انغام الموسقى.
بين الواقع والخيال
قد يتخيل البعض أن مسرحيات الحكيم نسجتها يد الخيال، ولكن الحقيقة أن أغلبها مستقى من صميم الواقع، حتى الأساطير التي كتبها مثل “شهرزاد” وغيرها يخضع ابطالها للواقع، وقد مر هو شخصياً بنفس المشاعر والأحاسيس التي صورها بلسان أبطاله، ومسرحية “الخروج من الجنة” لا يزال أبطالها أحياء يرزقون، وهو من صميم الطبقة الراقية.
اما “يوميات نائب في الأرياف” فقد احتج عليها شيخ الأزهر والقضاة الشرعيون وكان رد مؤلفها على هذا الاحتاج انه صور رجال الادارة والقضاة الأهليين بأسلوب أشد صرامة ومع ذلك لم يتقدم واحد منهم بالاحتجاج.