ارشيف واعداد عامر بدر حسون/
ثمة أماكن يجد المرء فيها نفسه أميل ما تكون الى السلام والسكينة من سواها، ذلك انه قد يشعر فيها بمشاعر معينة تثير فيه التأمل والتفكير وتبعث في نفسه الصمت والطمأنينة والهدوء، فيعاود زيارتها حتى ليكاد لا يجد صبرا عليها.
ومن هذه الأماكن التي أسعى اليها كلما عصفت بقلبي عواصف القنوط، واستبدت بي نزعات الشك والسأم والغضب، مكان يرقد على ضفة النهر الخالد الغربية، يحف به الصمت والسكون، فاذا الضجر يستحيل قناعة والغضب يعود ارتياحاً والشك يتحول ايماناً وادعاً وشجواً يملأ النفس ويهدهد القلب.
هذا المكان هو “القمرية في الكرخ” وهناك حيث تتحدث كل النياسم العابرة بحديث التاريخ وذكريات الأمس، وحيث تتهامس المويجات وهي تضرب جدار القمرية النهري انسرح في تأملات لا تنتهي وأخيلة ذهبية لا تبيد.
من هي قمرية؟ ويقف المؤرخون المعاصرون هنا موقف الشك، فتتضارب آراؤهم وتصطدم.. فإن هذا المسجد الصامت الهادئ هدوء السلام الأبدي، الذي ترتفع مئذنته الغربية الهندسة بشكل معدوم النظير والذي لا يزال اسمه موضع الجدال، يعود تأريخه الى سبعة قرون خلت. فيقول البعض إن قُمرية “بضم القاف وسكون الميم” كانت احدى نساء الخليفة العباسي الناصر لدين الله الذي حكم بين عامي 1180م-1225م، وقدتكون احدى محظياته او احدى جواريه، وقد تكون من أهل بيته الآخرين. ويقول سوى هؤلاء ان هذا الاسم منسوب الى احد علماء منتصف القرن الخامس الهجري من المعاصرين للمفكر العربي العظيم ابن سينا، وهو منصور الحسن بن نوح القمري، وفيما نترك الحقيقة ضائعة بين محظية الخليفة قمرية وبين العالم منصور القمري، دعنا نسرح النظر في تاريخ هذا الجامع التاريخي ومنارته المطلة على دجلة منذ سبعمئة عام او يزيد.
يقول العلّامة العراقي المرحوم محمود شكري الآلوسي إن مسجد القمرية هو أصح مساجد بغداد قبلة بسبب من مكانه الجغرافي.
وقد بني هذا المسجد كما أسلفنا في عهد الناصر لدين الله بين سنتي 1216م-1225م من حكمه ولابد انه كان بناء فخماً بحيث استغرق هذه المدة الطويلة في بنائه. أما منارته الرائعة المنقطعة المثيل في شكلها وهيئتها فقد تم بناؤها في عهد الخليفة العظيم المستنصر الذي كان عهده بين عامي 1226م و 1242م، آخر عهد زاهر من عهود الدولة العباسية.
وهكذا يكون اكتمال الجامع المذكور ومنارته الخالدة قد انسحب على عهود ثلاثة من الخلفاء هم الناصر فالظاهر- الذي لم يحكم غير عام واحد حسب –فالمستنصر.
وكان يوم اكتمال البناء يوماً فريداً لاشك في التاريخ، اذ زحف موكب الخليفة المهيب من الرصافة عابراً الجسر العظيم يحف به الحرس وتضرب بين يديه الطبول وتتألق الأسنّة والسيوف فيما ترفرف البيارق والرايات السود في احد ايام الجمعة حيث صلى الخليفة فيه. ولو كان الجامع ذاك جامع قمرية الجارية حقاً اذن لكان ذلك يوما عظيما في حياة هذه السيدة. ولعل اليوم المشهود كان يوماً حافلاً ايضاً في حياة “مجد الدين عبد الصمد بن ابي الجيش” فقد صلى الرجل فيه كأول إمام لهذا المسجد.
ولم تلبث الأيام الذهبية أن انطوت وشملت الفوضى اجزاء الامبراطورية، فالمستعصم بالله قابع في عقر داره يلهو بملذاته والأمراء من بويهيين وسلاجقة يتناهبون خيرات البلاد ويستأثرون بنعمها.. وهكذا فقد اغتصب المغتصبون اوقاف الجوامع، وضاعت فيما ضاعت منها وقفية “سوسيان” التي جعلت لجامع القمرية في أول بنائه. وتوالت المحن والنكبات، واشتركت الطبيعة الغضوب التي لم يقو أحد على لجم عناصرها مع الرعاة المستهترين في العدوان ففاض دجلة فيضانا مريعاً عام 1225م وأغرق كثيراً من أنحاء بغداد وتهدمت بسبب ذلك بعض اجزاء “القمرية”. وفي العام التالي أي عام 1256م فاض دجلة كرة أخرى فيضانا اشد قسوة.. فأغرقت مياهه “مسناة” هذا الجامع الرائعة.. وما ان حل عام 1258م حتى انطوت آخر صفحة من صفحات أعظم امبراطورية في العالم القديم وتدفقت جحافل “هولاكو” من المغول.. المتعطشين للدم يكتسحون كل شيء ويدمرون كل شيء، وأعلنت بغداد مدينة مفتوحة يعيث الغزاة في انحائها فساداً، ويشيعون فيها الدمار والبؤس ويمزقون ببربريتهم أعظم تراث الفكر الانساني وأجمل ابداعاته.
ومكث الخراب في جامع “القمرية” بضعة عشر عاماً حتى عمد “علاء الملك الجويني” أحد ولاة المغول الذين اعتنقوا الاسلام الى العناية به فعمره شيئاً ما.. وكان ذلك عام 1269م.
وما تلبث الظلمة أن تطغى على تأريخ هذا الجامع طغيانها على تاريخ العراق بكامله لسبعة قرون طوال، إلا أن “ستيفن همسلي لونكريك” يفتح لنا كوة صغيرة ينبجس منها عليه بعض الضوء في كتابه الرائع “أربعة قرون من تاريخ العراق الحديث”، فيقول لنا ان “دلي حسين باشا” أي “حسين باشا المجنون” والي بغداد العثماني عمد عام 1644م الى اصلاحه ، إلا أن لونكريك يخطئ لاشك اذ ينسب الى “حسين المجنون” هذا أمر بناء الجمع العتيق. وتمر الأعوام ويحتاج الجامع الى تعمير آخر لا يلبث ان يقوم به الوالي ابراهيم باشا عام 1682م وهو غير الوالي “مقتول ابراهيم باشا”-. وفي عام 1719م أجرت السيدة عائشة بنت احمد باشا والي بغداد اصلاحات اخرى على الجامع المذكور لايزال من آثارها لوح رخامي يحمل تأريخ الاصلاح ذاك.
وعائشة الخير قد عمرت مكان الوضوء فضاهى قصوراً. ولم يلبث البناء بكامله أن آل الى الانهدام عام 1814م لولا ان أمر سعيد باشا الوالي بالعناية به، فجرى تعميره ويؤرخ ذلك شاعر مجهول فيقول:
“..فيا مسجداً من بعد ما عرصاته نعقت على طول المدى فاقشعرت وصارت حضيضا يحجل الطير فوقها وأركانه أقوت وبالذكر هدت بناه وزير العدل ثم أجاده برصيف له الأهرام دانت فقلت الى أن أتم الصنع قلت مؤرخه سعيد مقيما جامع القمرية.”
وسلام على “القمرية” كأننا كان من بناها ففيها جمال وفي هندستها شاعرية وعذوبة وذوق لا يزال ينقل للاجيال اخبار عهود العرب الزاهرة.