عبد الجبار خلف /
حين طلبت من الشاعر الدكتور محمد حسين آل ياسين (بغداد / 1948) ان يقرأ لي في يوم مميز من عمره، استل لي من ايام عمره المديد يوم 19 / 7 / 1966 ، وحدثني عنه قائلاً: استيقظت مبكرا ذلك اليوم بعد ليلة مليئة بالأحلام الخضر والأماني العريضة، فقد كنت على موعد مع مدير رقابة المطبوعات لتسلم مخطوطة ديواني (نبضات قلب) الذي كان قد قدم قبل ايام لإجازته للطبع ويفترض انه ارسل الى خبير وعاد منه لأتسلمه اليوم ،كنت سعيدا تغمرني نشوة ويفعمني تصور مستقبل لا اعرف ابعاده الخفية .
واضاف: أفطرت على عجل وتهندمت وتعطرت كمن يستعد لحفل بهي لتكريمه، وحين اوصلتني سيارة الأجرة الى باب وزارة الإرشاد (وهو اسم وزارة الثقافة والإعلام قبل ان يتغير بعد ذلك) في باب المعظم الذي هو الآن دار الحرية للطباعة ، توجهت مباشرة الى غرفة الاستاذ لطفي الخوري، رحمه الله، المسؤول يومذاك عن شعبة الرقابة، وبعد السلام والترحيب مدّ يده الى درج المكتب واخرج الدفتر وقلّبه ثم قال بأدبه الجم المعهود والابتسامة تعلو وجهه: “أنا آسف، فالرقيب اشار بالقلم الأحمر الى وجوب حذف أبيات هنا وهناك من بعض القصائد”،وحين طلبت معرفة هذه الأبيات المحذوفة سلمني الدفتر فنظرت اليه فاذا المحذوف أبيات غزلية متفرقة الأماكن بدعوى انها من (الأدب المكشوف) وأربعة من آخر قصيدة (نفثة) الوجدانية الذاتية .
وتابع: وحين بدا لي مني ما اشعره بالاعتراض الهادئ المشوب بالاستغراب ، قام من مجلسه وأخذ مخطوطة الديوان واستأذن خارجا من الغرفة وغاب دقائق ثم عاد متهللاً فرحاً ليخبرني انه استحصل موافقة المدير العام على السماح بالأبيات الغزلية قائلا له –اي للمدير العام- اننا نسمح بتداول دواوين نزار قباني وغيره ثم نمنع ما هو اكثر حشمة منها في الغزل؟ غير ان الخوري جدد اسفه في استمرار منع الأبيات الأربعة، فشكرته وحملت كنزي الثمين وغادرت الوزارة متوجها الى مطبعة المعارف في شارع المتنبي، دخلت مكتب الحاج عبد الكريم قدوري، رحمه الله، صاحب المطبعة وفيه ثلّة من الرجال، فأخذت مكاني بينهم حتى اذا خلا المكان وضعت مخطوطة ديواني بين يديه وذكرت له مواصفات ما اريد فقام هو وولده الاستاذ عدنان بحساب التكاليف فاذا هي ثمانون دينارا بالكمال والتمام لا تنقص فلسا، ولما لم تكن هناك اية بادرة لتخفيض التكاليف اسقط في يدي ذلك لأنني لم اهيئ لهذا المشروع الكبير الا ستين دينارا ادخرتها من راتب وظيفتي الفتية، فانقدح في ذهني ان اعرض الأمر على الناشر الصديق عبد الرحمن حياوي، رحمه الله، صاحب مكتبة النهضة فعبرت الشارع اليه وتذاكرت معه في امر العشرين دينارا الباقين، فتأمل لحظات ثم قال: انا مستعد للمشاركة بالمبلغ بشرطين، الاول: ان يذكر على الغلاف عبارة (مكتبة النهضة – بغداد)، والثاني: ان يكون حقي مقابل مشاركتي مئتي نسخة من الديوان، فوافقت فورا على شرطيه وعدت مسرعا الى المطبعة وطلبت البدء فورا بالطبع حتى اذا جنّ الليل انعقدت ندوة (عكاظ) الشعرية والادبية في دارنا في الكاظمية وقصصت عليهم قصتي في النهار وما كان فيه، وباركت الندوة هذه الخطوة وتهيأت لاستقبال وليدها الجديد.