محمود الغيطاني/
ماذا لو وضع الإنسان في موقف أخلاقي يتعين عليه من خلاله التصرف كما يمليه عليه ضميره، لكن هذا التصرف الأخلاقي بمثابة المأزق الذي قد يطيح به وبكل من يحيطونه في حالة إذا ما استمع إلى صوت الضمير؟
إن هذا الموقف هو حجر الأساس الذي انطلق منه المُخرج والسيناريست الروسي يوري بيكوف في صناعة فيلمه المُهم “الرائد”، وهو الفيلم الذي يعمل فيه المُخرج على انتقاد المُؤسسة الأمنية الروسية وما يسود أفرادها من فساد يكاد أن يجعلهم مجموعة من العصابات الخطيرة بدلاً من حمايتهم للمواطنين!
نعيق الغربان
يبدأ بيكوف فيلمه- الذي أدى فيه دوراً مُهماً كمُمثل- بلقطة خارجية طويلة ثابتة لمجموعة من البنايات، بينما يعلو في الخلفية صوت نعيق الغربان العالي الدال على ثمة شيء سيئ على وشك الحدوث، ثم يتعالى صوت الهاتف في إحدى هذه البنايات ليرد عليه شخص ما، ويخبره من هو على الطرف الآخر بأن زوجته قد نقلت إلى المشفى.
في اللقطة التالية مُباشرة نرى سيرجي- قام بدوره المُمثل الروسي دينيس شوفيدوف- مُنطلقاً بسيارته على طريق ثلجي؛ للحاق بزوجته التي في المشفى، ويكاد أن يصطدم بالعديد من السيارات أكثر من مرة، لكنه فجأة يلاحظ أحد الأطفال يحاول عبور الطريق، بينما أمه/ إيرينا- قامت بدورها المُمثلة الأوكرانية إيرينا نيزينا- تناديه محاولة تحذيره من العبور، لكن سيرجي يصطدم بالطفل وينحرف بالسيارة على جانب الطريق؛ الأمر الذي يؤدي إلى أن يغشى على الأم التي تقع على الجانب الآخر للطريق.
يسرع سيرجي بسحب الأم المغشى عليها ويحبسها في سيارته بعدما يأخذ مفاتيح السيارة، ويهاتف أحدهم مُخبراً إياه بأنه قد دهس طفلاً، وعليه أن يجد له مخرجاً من هذه الورطة؛ فيسأله الطرف الآخر عن وجود شهود، إلا أن سيرجي يؤكد له أنه لم يكن هناك أي شهود فيما عدا الأم فقط.
تصل إلى مكان الحادث سيارة شرطة يقودها الضابط ميركولوف- قام بدوره المُمثل الأستوني إيليا أساييف- تتبعه سيارة عادية يقودها ضابط الشرطة باشا- قام بدوره مُخرج الفيلم يوري بيكوف-، هنا نعرف أن سيرجي- الذي صدم الطفل أثناء عبوره- هو رائد شرطة، وقد اتصل بزملائه من أجل إنقاذه من ورطته.
يسمح سيرجي لإيرينا المُنهارة تماماً بالخروج من السيارة؛ فتسرع نحو جثة ابنها، وحينما تتأكد من موته تحاول ضرب سيرجي، لكن ميركولوف يأخذها إلى سيارة الشرطة محاولاً تهدئتها. يعود ميركولوف إلى سيرجي وباشا ويتفقان على أن يخرج سيرجي من الورطة بمنح الأم كأساً من الكونياك بغرض تهدئتها، ليؤكدوا أن الأم لم تكن مُنتبهة إلى ابنها؛ ما أدى إلى وقوع الحادث الذي لا ذنب لسيرجي فيه.
بعدما تنصاع الأم المُنهارة إلى ميركولوف، الذي يقوم بالاتصال بالإسعاف، وببقية عناصر الشرطة من أجل التحقيق شكلياً في الحادث الذي وقع، وهنا نرى باشا يُملي الضابط الذي يجمع الأدلة قائلا: سيرجي كان يقود من هناك، وشاهدهم يسيرون إلى موقف الحافلات؛ تباطأ قبل المُنعطف وسرعته كانت 50 كم في الساعة؛ لذا استمر في القيادة وهم يسيرون نحوه، وقد حذرهم مرتين، وعندما وصل إلى موقف الحافلات بدأ الطفل بالركض؛ فضرب المكابح وانزلق؛ فيسأله جامع الأدلة: كم تبعد علامات الانزلاق؟ فيرد عليه: عشرة أمتار، لكن الشرطي يقول: ليست عشرة، تبدو ثلاثين متراً؛ فيقول باشا بتحذير: دوِّن ما أقوله لك فحسب، اتفقنا؟ ثم نرى ميركولوف يمد يده إلى الكاميرا الخاصة بالشرطي ليفرغها من بطاريتها قائلاً له: ستخبرهم بأن البطارية كانت فارغة.
تواطؤ
ربما نلاحظ هنا تواطؤ جميع رجال الشرطة من أجل تبرئة سيرجي الذي يقف بينهم مذهولاً؛ وهو الأمر الذي يشعره بالكثير من الذنب حينما ينظر إلى أم الطفل؛ لذلك يخبر باشا أنه بالفعل قد رأى الطفل، وأنه كان مُسرعاً، وسرعته هي التي قتلته، لكن باشا يهوِّن من الأمر مُخبراً إياه أنه لا بد من أن يخرج من هذه الورطة، لكن سيرجي حينما يركب السيارة مع باشا ينهار تماماً قائلاً: “يا لغبائي، لقد رأيتهما، رأيت موقف الحافلات، وإشارات المرور.”
يطلب سيرجي من باشا أن يأخذه إلى المشفى لرؤية زوجته، لكنهما أثناء الطريق يصلهما اتصال من رئيسهما أليكسي- قام بدوره المُمثل الروسي بوريس نيفزوروف- الذي يأمرهما بأن يذهبا إليه؛ ومن ثم يتجهان إليه. مع وصولهما يخبر سيرجي أليكسي: لقد كانت غلطتي؛ فيرد عليه: لا يهمني غلطة من كانت، أريد أن أعرف هل قضيتك بخير؟ ثم يقول لباشا: خذه إلى المركز وضعه في السجن، ولا تدعه يخرج، وإن جاءت الشؤون الداخلية سيكون في الحجز، لا أريد أية جلبة أو شكاوى، وتعامل مع تلك السيدة، لا يهمني كيف، أريدها أن توقع بالتنازل عن القضية.
حينما تصل إيرينا مع زوجها جوتوروف- قام بدوره المُمثل الروسي ديمتري كوليتشكوف- إلى مركز الشرطة يصطحبهما باشا إلى مكتبه ويطلب منها أن تقرأ التقرير وتوقعه، لكنها تكتشف أن التقرير يذكر وقائع لم تحدث بالفعل، وحينما تعترض يخرج لها التقرير الطبي الذي يدينها، وأن الرائد سيرجي لا بد له أن يخرج من هذه القضية، هنا يثور الزوج عليه ويبدأ في سبهم، وترفض الأم التوقيع؛ فيلكم باشا الزوج بقوة في وجهه ليقع أرضاً نازفاً دماءه، ويبدأ في تعنيف الأم، وحينما يخبرانه بأنهما سيتوجهان إلى المحكمة، يعتدي بالضرب مرة أخرى على الزوج مُهدداً إياها بقتله؛ الأمر الذي يرغمها على التوقيع والانصراف.
مشرحة الجثث
رغم تنازل الأم عن اتهام سيرجي مُكرهة، إلا أن سيرجي حينما يرى توقيعها ويلمح يد باشا المتورمة بسبب لكمه للزوج يعرف ما حدث؛ ومن ثم يرفض الخروج من الحجز لائماً إياه بأنه قد طلب منه عدم استخدام العنف مع أبوي الطفل، لكن الزوج جوتوروف يعود إلى مركز الشرطة مرة أخرى مُسلحاً ويهاجمهم بعدما يتخذ اثنين من رجال الشرطة كرهائن.
يصل أليكسي/ الرئيس إلى مركز الشرطة غاضباً ويبدأ في لومهم لأنهم لم يقتلوا الأب الذي ألقوه في الحجز، كما يأمر باشا بأن يتخلص من الأب الموجود في الحجز، ويسرع باشا إليه ليقتله، ويأمر زملاءه بحمل الجثة إلى المشرحة، وتبرير مقتله أنه قد قاوم الاعتقال، لكن سيرجي يسرع بأخذ سيارة وسلاح مُتجها إلى عنوان إيرينا / أم الطفل، محاولاً حمايتها من زملائه الذين سيقتلونها، وحينما يصل إلى باب البناية محاولاً الهروب مع الأم يُفاجأ بأن زملاءه من الشرطة قد وصلوا من أجل قتل إيرينا. يهرب سيرجي معها بعدما يصوب السلاح على رأس باشا، ويتجه إلى منطقة ثلجية غير مأهولة، وحينما تسأله إيرينا: لم تفعل ذلك؟ يخبرها بأنهم قد قتلوا زوجها وسيقتلونها أيضا.تسرع الشرطة بعمل كمائن على الطريق حتى لا يهرب سيرجي بالأم؛ فيهاتف ميركولوف سائلاً إياه عن الوضع، لكن ميركولوف يطلب منه تسليم الأم لهم وأن يعود إلى عقله، وحينما يرفض سيرجي يخبره ميركولوف أنهم قد فعلوا كل ذلك من أجل حمايته، لكن إذا ما أصر على الهروب بالأم؛ فهو بالنسبة لهم سيكون مجرد مُحتجز هارب مع شاهدة إثبات ومن حقهم أن يطلقوا عليه النيران في هذه الحالة، ثم يغلق الهاتف في وجه سيرجي، لكنه يسمع صوت صفير من خلفه وحينما يلتفت إلى مصدر الصوت يرى سيرجي مصوباً سلاحه تجاهه، ومن ثم يرغمه سيرجي تحت تهديد السلاح على تهريبهما، ويطلب من ميركولوف أن يذهب بهما إلى بيته.
يندهش ميركولوف للجوء سيرجي الى بيته؛ فيسأله عن السبب، هنا يخبره سيرجي بأنهم سينتظرون هنا حتى تأتي الشؤون الداخلية ويسلم نفسه مع الأم، ويطلب من ميركولوف الاتصال بالشؤون الداخلية وإبلاغها بكل ما كان في ذلك اليوم الطويل، وتخوفاً من أن يطلق سيرجي عليه النار يفعل ميركولوف ويخبر الشؤون الداخلية التي اتخذت طريقها للوصول إليهم، لكن بما أن المسافة تستغرق أربع ساعات كاملة يكون الانتظار طويلاً.
هنا تتساءل إيرينا: أي نوع من الأشخاص أنتم؟ كيف تعيشون مع أنفسكم؟ ليرد عليها ميركولوف: كما تعيشين أنت، إذا قتل زوجك طفلاً هل تذهبين إلى الشرطة؟ وحينما لا ترد عليه مُلتزمة الصمت والحيرة؛ يقول لها: نحن جميعا متشابهون، لذا أغلقي فمك.
نهاية مفتوحة
يصل رجال الشرطة إلى منزل ميركولوف ويحاولون اقتحامه، ويفكر باشا في الدخول وقتل سيرجي، لكنه يتراجع غير قادر على قتل صديقه؛ فيهاتفه طالباً منه أن يقتلها بنفسه ويخفي جثتها، إلا أن سيرجي يرفض؛ فيؤكد له باشا أنه إذا لم يفعل سيقوم بقتل زوجته وطفله الذي وُلد اليوم، هنا يشعر سيرجي بالكثير من القلق والخوف ويخرج بإيرينا من المنزل مُتجهاً معها إلى منطقة غير مأهولة.
يحاول سيرجي قتل إيرينا، لكنه يشعر بعدم مقدرته على فعل ذلك، وحينما تثور في وجهه يطلب منها أن تسامحه؛ لأنهم سيقتلون زوجته وطفله إذا لم يقم بقتلها، ثم يطلق عليها النار. يصل باشا إليه راغباً في التخلص منه، لكنه لا يستطيع قتل صديقه؛ فيقول له: لو كنا قد قتلنا الأم في مكان الحادث لما حدث كل ما حدث في هذا اليوم الطويل، ولما مات زملاؤنا، ولا زوجها، ويطلب منه الهروب والاتجاه إلى المشفى الذي توجد فيه زوجته وطفله؛ فيسرع سيرجي بالهروب.
صحيح أن المُخرج الروسي يوري بيكوف قد أغلق فيلمه على ذلك، أي أنه قد ترك نهايته مفتوحة من دون إحكام، لكننا –كمُشاهدين- نُدرك جيدا أن فرقة قسم الشرطة بالكامل قد انتهى أمرها، وأن الشؤون الداخلية ستلقي القبض عليهم جميعاً.
إن الفيلم الروسي “الرائد” للمُخرج يوري بيكوف من الأفلام المُهمة على المستوى الفني، والأدائي، والتنفيذ، والإخراج، ولعلنا لا ننكر أن الفيلم كان فيه من التوتر والسرعة اللاهثة، التي تعود إلى المُونتاج، ما يجعل المُشاهد مُنجذباً الى أحداث الفيلم منذ اللحظة الأولى حتى نهايته، من دون أن ينفصل للحظة واحدة عن مُتابعته لما يدور أمامه، كما كان أداء المُمثلين جميعاً كمباراة تنافسية مُهمة فيما بينهم، ليبدي كل منهم أفضل ما لديه، لكننا لا يمكن لنا تجاهل أداء المُخرج يوري بيكوف الذي يثبت أنه مُمثل بارع على مستوى الأداء، بل واستطاع التنافس في الأداء مع العديد من المُمثلين المعروفين بأدائهم القوي.