عبدالزهرة زكي/
ثمانية ملايين، ومئتان وواحد وستون ألفاً، وخمس مئة وسبعة وعشرون.
كثيراً ما عانيت من نسياني الأرقام، وكان هذا ما يشكل لي متاعب في الدراسة وفي الحياة أيضاً؛ الكثير من الأرقام هي أكثر من ضرورة في حياتنا المعاصرة، لكني أنساها. ظللت أنسى الأرقام دائماً، لكن الرقم الذي كتبته في المقدمة ظل في بالي منذ منتصف الستينات.
ذلك الرقم بملايينه الثمانين وما يتبع الملايين هو مما درسته في جغرافية الخامس الابتدائي. كنت أكره الجغرافية لكونها تتضمن أرقاماً كثيرة يجب حفظها، كما تتضمن معلومات يجب أن يجري حفظها نصاً. أحب الدروس التي تتطلب الفهم لا الحفظ.
الرقم الذي بدأت به هنا وحفظته من الجغرافية بعمر مبكر هو تعداد العراقيين آنذاك حسب آخر احصاء حينها. هذا رقم لم أنسه برغم أني لا أعرف أرقام التعدادات السكانية التالية بالدقة التي حفظت بها ذلك الرقم الستيني.
لقد أردت مؤخراً اختبار ذاكرتي بشأن هذا الرقم فاستعدته حين كنت أقرأ منشورا للصديقة المهندسة المعمارية فاتن الصراف عن حيوية حفظها للأرقام، وقد سردت فيه معلومات طريفة عن قدرتها على خزن ارقام معقدة في ذاكرتها.
تذكرت تعداد العراقيين، لم أنسه إذن.
لم أنس أيضاً الرقم (6630). هذا الرقم كان يجب أن أحفظه ولا أنساه، فقد ظل يرافقني لثماني سنوات، إنها السنوات التي قضيتها في الجندية في حرب الثمانينات. إنه رقم وحدتي العسكرية (كتيبة دبابات الشيب)، رقم تحمله أوراق تسمح لي بحرية التحرك في أثناء الإجازات الدورية، وتحمله اليافطات التي تدل على موقع الكتيبة حيث يختفي اسمها في التداول العام ويتقدم إلى الأمام بدلا عنه الرقم الذي يرمز إلى الوحدة العسكرية، أي وحدة، وهذا اجراء أمني عسكري أحمق. لم أنس الرقم (6630) لكني نسيت أرقام جميع وحدات الجيش الأخرى التي مررت بها مرورا عابرا لسنة أو أشهر أو أسابيع. ثماني سنوات من القسوة والتفريط بالزمن والحياة وبكل شيء كانت تكفي ليرسخ الرقم في البال، ولا أحسب أنه سيختفي ويمحى من الذاكرة مهما طال الزمن.
رقم آخر لم أنسه، هو 22/24/33..
هذا هو رقم أول بيت سكنته عائلتي. إنه أول بيت يحمل رقماً، امتلكناه أواخر الستينات، وقبل هذا كانت البيوت التي سكنا فيها وبنيناها لا تحمل أرقاماً، فهي أراضٍ مملوكة للدولة وقد جرى (التجاوز) عليها من قبل الناس، ونحن منهم.
حينها لم تكن الناس تعرف مفهوماً للتجاوز على الأرض (بلغتنا المعاصرة: حواسم)؛ كان الإنسان منا يعرف أن الأرض لله لكي يقيم فيها البشر ويحيوها ويعمّروها. تفاجأت حين انتقلنا من بيت كنا متجاوزين عليه إلى بيت آخر؛ كانت مفاجأتي حين عرفت من أبي أن الحكومة تريد الأرض التي نقيم عليها فهي ملكها؛ “ إذن هي ليست ملك الله، وبالتالي فهي ليست ملكنا؟” قلت مع نفسي، وحزنت على البيت الذي هدمته جرافات الحكومة حالما غادرناه مع ما هدمت من بيوت أخرى كثيرة في حي الجبيلة بالبصرة.
البيت المرقم 22/24/33 امتلكناه بعد هذا بسنوات، بعد انتقالنا من البصرة إلى بغداد، اشتراه والدي في مدينة الثورة، وفيه تربيت، وبدأت في غرفتيه حياتي مع الكتابة والنشر.
سوى رقم هذا البيت لم يبق في ذاكرتي أي رقم لأي بيت آخر من البيوت الكثيرة التي تنقلت فيها مع عائلتي الأكبر وبعد ذلك مع عائلتي الصغرى. الآن وبرغم محاولات كثيرة لحفظ رقم بيتي الذي أقيم فيه، إلا أني ما زلت أتصل هاتفياً بزوجتي أسألها عن رقم البيت كلما تطلبت معاملة لي في دوائر الحكومة الرقم مني حين لا تكون معي وثيقة تحمل الرقم الذي يجب حفظه ولم أحفظه.
كان الموقف الأشد حرجاً في نسياني أو عدم حفظي رقم مسكني الحالي في بغداد هو ما حصل في سجن الحاكمية، الغريب أني سردت كل شيء عن تلك التجربة العابرة في كتاب (واقف في الظلام) إلا أني نسيت المرور بتفصيل نسياني رقم بيتي. وأحسب أن هذا النسيان لتلك الواقعة التي سأرويها هنا هو تأكيد آخر على عدم وقوفي بجدية أمام كل ما يخص الأرقام. ففي جلسة تحقيقية، حين سئلت عن سكني أجبت:” حي أور ببغداد”، وحين عاد المحقق ليسألني عن رقم الدار، صفنت للحظات ثم أجبت بعدم معرفتي الرقم، وبدأت أتحدث له عن موقع المسكن وعن العلامات الدالة القريبة منه لأتفادى هذا الحرج، فما كان منه إلا أن ينفعل متصوراً أني أتمنع عن إعطاء الرقم، حتى اضطررت أن أقول له: لست من الحماقة بحيث امتنع عن ذكر رقم دار لا أسهل من الحصول عليه بالنسبة لكم، في الأقل يمكن الحصول عليه من إضبارتي الوظيفية في الجريدة.. انتهى الحوار بكلمات نابية سمعتها، فيما لم يصدق حتى زملائي في الحبس مشكلة عدم حفظي رقم مسكني حين سألوني عن مجريات التحقيق.
أرقام الهواتف هي الأخرى ظلت تشكل لي مشكلة. كنت أحفظ رقم هاتف مسكننا في الثمانينات، لكني نسيته حالما أُخرس الهاتف بعد حرب الكويت 1991.
مع الموبايل صارت المشكلة أشد تعقيداً؛ كثيراً ما تغيرت أرقامي.. أول شريحة اشتريتها كانت من (عراقنا)، وكانت تبدأ هكذا (07914) لكن بقية الرقم طمرها النسيان حالما تركت تلك الشريحة. واقعاً لم أشترها أنا فقد اشترتها لي جريدة المدى، ولا أدري كيف تركتها أو تركتني، فتوالت الأرقام بعدها.
الآن لا أحفظ رقم موبايلي.. غالبا ما أستعين بالجهاز كلما طُلب الرقم مني.
لا صلة لنسيان أو عدم حفظ الأرقام بضعف محتمل في الذاكرة. في الأقل أن هذه الذاكرة تنشط وتختزن الكثير مما له صلة بجوانب حياتي الثقافية. أعتقد أن فاعلية الذاكرة تركز الكثير من طاقتها في هذا المجال وتنصرف عن جوانب أخرى كالأرقام مثلاً..
وقريباً من حفظ الأرقام، فإني للآن لا أجيد عدَّ الأوراق النقدية. منذ أول مرة أتسلم فيها راتباً، كنت وما زلت آخذ الأوراق المالية وأضعها في جيبي واثقاً مطمئناً، والحمد لله لم تخني هذه الثقة بالناس حتى الآن.
مؤخراً سلّمت أمينة صندوق في المصرف مبلغاً مالياً بسيطاً كان مطلوباً مني تسديده. وحين وضعت الموظفة المبلغ في جهاز عد الأوراق المالية أعادته عليَّ طالبة مني أن أحسب الأوراق وأعيد عدها للتأكد منها.
“ حتما هناك نقص في الأوراق”، قلت للسيدة، وطلبت منها مساعدتي لتعدّها بنفسها لعدم معرفتي ذلك.
واقعاً أعرف طبعاً العدَّ، لكني ما إن أبدأ فيهَ وبعد الأوراق الأولى حتى أنسى أين وصلت، تختلط الأرقام عليَّ ليتطلب الأمر إعادة العد مرة أخرى أو أكثر.
حدقت فيّ موظفة المصرف مستغربةً ذلك لكنها كانت من اللطف بحيث ابتسمت وواصلت العدَّ مباشرة.
لم يكن من نقص في المبلغ؛ فقد أعادت إليَّ مبلغ خمسين ألف دينار (ورقتان من فئة خمسة وعشرين ألفاً)، لقد كانت زائدتين عن المبلغ المطلوب مني للمصرف.