جواد غلوم /
كلما أنوي الاتصال بأولادي وبناتي الموزعين في أقاصي الأرض وشتاتها، ألجأ إلى ملاذي الذي اعتدت عليه في الهاتف الذكيّ وأنتخب نظام الاتصال “واتساب” ليوصلني إلى من أحبّ فيهدأ بالي وتطيب سريرتي.
في العام1992 رحل شاب قرويّ، وحيد أمه وأبيه؛ طبعُه ساذج، ليس له مران في التعامل مع الثورة الإلكترونية وعالم التقنية والميديا إلا النزر اليسير؛ فتى قليل الخبرة هاربٌ من الاضطرابات السياسية في بلاده الأم، ضعيف الدربة اسمه “جان كوم” مع أمّه القرويّة الساذجة ربّة البيت الأوكرانية مهاجراً الى الولايات المتحدة بعد ضنك عيشٍ في بلدهما الأم، وتركا الأب في أوكرانيا، إذ كان هذا الأب معانداً ولم يرغب في الهجرة وبقي في بلاده كمدير مشروع لإسكان الفقراء وبناء بيوت شعبية لهم وتشييد المدارس والمستوصفات الصحية لمواطنيه وأطفالهم في قريته.
كان عمر هذا القرويّ الوحيد لعائلته وقتذاك أربعة عشر عاماً حينما حطّ رحاله في بلاد “اليانكي”، واستقر في قصبة نائية ضمن ولاية كاليفورنيا اسمها “ماونتن فيو” هرباً من النزعة المعادية للسامية وكراهية الأجانب النازحين الى الولايات المتحدة التي كانت قائمة بين بعض سكّانها في تلك الولاية.
عاش مع أمّه في شقة صغيرة تحوي غرفتَي نوم حصلا عليها ضمن المساعدات الحكومية التي تمنح للمهاجرين قبل أن تصاب والدته بالسرطان وتنتقل الى العالم الآخر سنة 2000.
وقبل هذا التاريخ رحل والده أيضاً سنة 1997 ودفن في وطنه الأوكراني الذي لم يغادره.
حارس ليلي
عملت أمّه في ردح حياتها الأميركية أوّل مرةٍ مربية وجليسة أطفال لدى إحدى العوائل الغنية رغم اشتداد أسقامها، كما حصل “جان كوم” على عمل رثّ في دكان بقالة متواضع يقوم بنفسه بترتيب البضائع وغسل أرضية البقالة وتنظيفها يومياً، وبعدها انتقل الى عمل آخر كحارس ليلي في إحدى الشركات حينما تم قبوله طالباً دارساً في جامعة سان خوزيه ستيت حيث كان يدرس نهاراً في الجامعة ويعمل في الحراسة ليلاً.
العوز والضنك
قبيل وصوله الى العالم الجديد؛ عاش الفتى مع والدته في قرية صغيرة خارج العاصمة كييف في أوكرانيا معيشة فيها من الضنك الكثير، إذ كان مسكنه يخلو من الماء الساخن والكهرباء وأجهزة الهاتف، وبالكاد أكمل دراسته الابتدائية في تلك القرية، وعُرف بشغبه وشراسته مع زملائه الطلبة، ولم تظهر عليه علامات الفطنة والذكاء أيام التعليم الأساسي في بلاده ومحتده أوكرانيا.
وطوال إقامته في الولايات المتحدة بدأت سمات الذكاء تظهر عليه، ولاسيما بعد أن فاز بعملٍ كمهندس إلكتروني في شركة “ياهو” وتكليفه بتفقّد أنظمة الدعاية، وكان يجمع بين الدراسة والعمل والكدح المضني، وبسبب خلو جيبه فقد كان يستعير الكتب من المكتبة العامة ومن زملائه وأصدقائه ليلتهمها في أقصر وقت ويعيدها الى أصحابها، إذ صمم على تغذية عقله بتقنيات التكنولوجيا الرقمية وعلوم الحاسبات وعالم السوشيال ميديا، وجهدَ على المثابرة لإغناء عقله باعتباره طريقاً سالكاً باتجاه إثراء جيبه وزيادة أرصدته المالية، وهو الذي عاش الفقر المدقع والحاجة القصوى للمال يوم كانت أمّه المريضة بأمسّ الحاجة الى الدواء والعلاج المكلف، ولاسيما أنها لم تكن وقتذاك تمتلك تأميناً صحياً يتيح لها العناية بصحتها ومواصلة العلاج.
ثروة لم تكن في الأحلام
ولأن الحاجة أم الابتكار والاختراع -كما يقال في أمثالنا- ففي عام 2009، قام مع شريكهِ “بريان أكتون” بتأسيس برنامج التراسل للهاتف الجوال “واتس أب” الذي يعني ويترجم تساؤلاً في العربية : ما الجديد ؟؟ الذي اشترته في فبراير/ 2014 شركة فيسبوك، التي سبق أن طردتْه عام 2007 عندما قدّم على وظيفة تُعينه وصديقه على تحمّل أعباء الحياة وتدعم مشروعه المجاني في عالم الاتصالات، مثلما رفضت تعيينه شركة (تويتر) أيضاً، لكنه بإصراره وقوة عزيمته حقق ثروة لا تخطر حتى في خيالات الأحلام وأوسع من حدود الأماني (19 مليار دولار) تسلم دفعتها الأولى البالغة أكثر من ستة مليارات ونصف المليار دولار، وهو الذي كان يُمنّي نفسه بأن يملأ جيبه ببضع مئات من الدولارات ليسدّ رمقه ويقيم أوَده.
والمدهش أن الصفقة التي جرت بينه وبين مؤسس الفيسبوك قد حصلت في نفس البناية البيضاء التي كانت مركزاً لاستقبال أمثاله من المعوزين اللاجئين، وكثيراً ما كان يتسلم منها المعونات البخسة بين حين وآخر (بضع مئات من الدولارات وقليل من المساعدات العينية) وكوبونات الحكومة الداعمة لأقرانه المغتربين الفقراء باعتباره لاجئاً هو وأمّه وقت شبابه وفتوته ليقيم أودَه ويسدّ رمق أمه المعوزة المريضة.
خدمة المعوزين
تحدّث جان كوم بعد تسلمه الدفعة الأولى البالغة أكثر من ستة مليارات دولار: “كنت في صباي أدخل مكاتب البريد لأتصل بوالدي في أوكرانيا وأبقى ساعات أنتظر دوري في مكتب البريد، وحالما أنتهي عليّ أن أدفع أجرة الخدمات الهاتفية، ما يرهق جيبي، ولا أخفي فإن هذا الحال المدقع ودفع الدولارات من أجل مكالمة تُريحني كانت سبباً لابتكار الخدمة الهاتفية المجانية في الواتساب؛ لهذا عزمت على مساعدة مستخدمي الواتساب بصورة مجانية وسعيِي ونجاحي في تحميل ما ابتكرت في جهاز (الآيفون) الذي امتلكته عام / 2009 بشقّ الأنفس، وهذه ضمن شروطي على إدارة الفيسبوك على إبقائه مجانياً وبدون دعايات إعلانية مفرطة بعد عقد الصفقة، عسى أن أوفق في خدمة المعوزين وأخفف عنهم؛ وها أنا حققت ما أريد، وكم أسعد حينما أرى مئات الملايين يستفيدون من خدماتي الهاتفية بلا مقابل مادي، فأنا الآن رغم ثرائي ما زلت أعشق الحياة البسيطة التي كنتها في بلادي قبل رحيلي الى الولايات المتحدة؛ وهل أنسى أمّي التي ملأت حقيبتي أقلاماً وقرطاسية ودفاتر من مكتبات أوكرانيا، حتى لا أضطر الى شرائها بسعر غالٍ في مهجري بالعالم الجديد.
كثيراً ما تختلج في رأسي فكرة أن المبدع – فناناً كان أم أديباً ، مخترعاً أم مكتشفاً، في أيّ حقل من حقول العلم – لا يصل الى قمة الإبداع والابتكار إلاّ إذا عاش الفقر وتذوّق مرارة الفاقة، وقد يصل الى ذلك الفردوس الإبداعي والاكتشاف الذي يصبو إليه؛ لأن الفقر والعوز يعطيان العالِم والمخترع والأديب والفنان دفعاً وزخماً أعلى بكثير ممن لا يعيشون معاناة الفاقة.”
هذا هو حال السيد الأوكراني “جان كوم” مثار حديثنا الذي أقدّم له وافر الشكر والامتنان كلما سمعت صوت نسلي وأحفادي وأروني شكلهم وجهاً لوجه عبر اللوح الإلكتروني وهم كلّ ذخيرتي في الحياة ولو استقروا في أقاصي الأرض.