ارشيف واعداد عامر بدر حسون/
تعتبر بلاد ما بين النهرين كما سماها الأغريق أو العراق “المشتقة من أرك أو الوركاء” مهد الحضارات بحق، فقد اكتشفت خلال شهر كانون الثاني 1965، في أحد أطلال مدينة سومرية قديمة، لا تبعد كثيراً عن أرك الواح طينية تعود إلى أوائل عهد الكتابة حوالي 2600ق.م، أي قبل عهد حمورابي بنحو ألف سنة، تحوي نصوصاً لعقود بيع وشراء وبعض النظريات والدروس التي كان يتعلمها الصبيان في تلك العهود السحيقة.
الموسيقى عند العراقيين القدماء
والمتتبع للحضارة السومرية-الأكدية-البابلية، يرى على ضوء المكتشفات الحديثة أن تلك الحضارة لم تكن بدائية بل متقدمة بالنسبة إلى مستوى الحياة الاجتماعية والسياسية وتعقداتها، ومثل هذه الحضارة تؤدي إلى ابتكار الفنون التي تتطور بتطور الحياة حولها، وكانت الموسيقى أحد الفنون المهمة التي لعبت دوراً كبيراً في حياة العراقيين القدماء، وكانت للموسيقى جذور عميقة وراسخة منذ عصور فجر السلالات في الألف الثالث قبل الميلاد وأكبر برهان على ذلك قيثارة “أور” الشهيرة التي وجدت في المقبرة الملكية.
وقد كانت للموسيقى مكانة محترمة في المجتمع البابلي، ففي البلاط كانوا يأتون بعد النبلاء في الأهمية وحتى الملوك وأفراد عائلاتهم كانوا يعزفون على الالات الموسيقية أثناء الطقوس الدينية ويشتركون في ترتيل التسابيح، وتذكر احدى الكتابات أن حفيدة الملك نرام سين الأكدي كانت عازفة قيثارة في معبد الاله سن في أور، وكانت نعوت بعض الالهة اسماء لالات موسيقية مثل العلامة السومرية للاله “ايا” اله الماء، فهي في الوقت نفسه علامة الطبل “بالاك” لأن صوت قرع الطبل يشبه هدير المياه.
وفي المعابد كانت وظيفة الـ”كالو” وهي طبقة معينة من الرهبان –هي ترقيق قلوب الالهة بالعزف على آلة موسيقية.
وكانت الموسيقى والغناء يصاحبان القداس الديني والقراء من كتب الصلوات ومن جملة الالات الموسيقية التي كانوا يستعملونها الطبل والمزمار والدف.
ولم يكن استعمال الموسيقى مقتصراً على الطقوس الدينية فحسب، بل كانت تستعمل في الأفراح والولائم أيضاً، وكان العازفون هم المغنون في نفس الوقت، كما هو الحال في عصرنا الحاضر في أغلب الأحيان.
وهناك أكثر من آلة موسيقية واحدة، اذ نرى في بعض الأحيان فرقة موسيقية مؤلفة من عدة عازفين، فقد عثر على منحونة تصور الملك آشور بانيبال وحوله فرقة موسيقية مؤلفة من سبعة موسيقيين يعزف أحدهم على القيثارة والآخر على السنطور وآخرون على المزامير والطبول.
وهناك منحوتات كثيرة تدل على أن الآشوريين استعملوا الفرق الموسيقية لاثارة حماس الجنود عند سيرهم إلى الحرب، ولعل تلك الفرق هي أصل الفرق الموسيقية العسكرية لدى الجيوش الحديثة.
الموسيقى لدى الكنائس الشرقية
وقد انتقلت الموسيقى من المعابد الوثنية واليهودية إلى الكنائس المسيحية بالتقليد، فقد تكلم أحد كهنة الكلدان في محاضرته التي القاها في مؤتمر الموسيقى العالمي الذي انعقد في روما بمناسبة سنة اليوبيل –من25إلى31 ايار 1950 عن موسيقى الطقس الكلداني، فذكر أنها تشتمل على 26 نغماً و6 ألحان بما فيها التضرعات وتراتيل الموتى، وقد انتقلت هذه الألحان بالتقليد- أي جيلاً بعد جيل بطريق السماع، مما أدى إلى اختلاف الألحان بحسب المناطق والبيئة، ولكنها بقيت متشابهة وقد عني أحد الموسيقيين من الرهبان الغربيين بوضع نوتة لهذه الألحان تحفظها من الضياع، اما الالات الموسيقية المستعملة من الكنائس الشرقية الآن فهي الارغن والصنوج والأجراس والصنوج من أقدم الالات الموسيقية في الكنائس وتستعمل في الأعياد الربانية.
الموسيقى والغناء في عهد العباسيين
بالرغم من أنه لم يخل عهد من العهود من وجود موسيقيين ومغنين اشتهروا في زمانهم، إلا أن العهد العباسي اشتهر بتشجيع الخلفاء للموسيقيين والمغنين والمغنيات ووصلهم بالعطايا والهدايا، وكثير من المقامات العراقية الحالية تنسب إلى المغنين المشهورين في قصور الخلفاء العباسيين، فاذا استمعت إلى مقام الابراهيمي، لابد أن تذكر ابراهيم الموصلي وولده اسحق، اللذين حلقا عالياً في سماء الفن، واذا اصغيت إلى مقام المنصوري، تبادر إلى ذهنك منصور زلزل، ذلك المغني الذي امتاز بالمواهب الفنية، اما المغنيات فكن من الجواري اللواتي يتدربن على الموسيقى والغناء على ايدي المشاهير من المغنين، أمثال المغنية بصيص، جارية الخليفة المهدي العباسي.
المقامات العراقية الحديثة
لقد تعددت المقامات العراقية الحديثة نظراً لاقتباس المغنين في العهد العثماني لكثير من الأنغام والألحان التركية والفارسية والكردية، غير أن الغناء اقتصر على اللغة العربية بالطبع، وقد قسمت المقامات إلى قسمين رئيسيين: الأول يغنى فيه شعر عربي فصيح، كالبيات والحسيني، ويشتمل على 33 مقاماً، والقسم الثاني يغنى فيه شعر عامي يسمى “زهيري” أو “موال” والزهيري شعر عامي يتألف من سبعة أشطر تنتهي الثلاثة الأولى منها بكلمة متحدة باللفظ مختلفة في المعنى “جناس”، وكذلك الأشطر الثلاثة التي تليها، اما الشطر السابع فينتهي بكلمة الثلاثة أشهر الأولى ولكنها مختلفة في المعنى، ووزنه من بحر البسيط، والسبب في تعدد المقامات العراقية ناتج من اضافة نغمتين أو أكثر إلى بعضها فيتولد مقام جديد، ومثال ذلك الناري والطاهر، فالناري يتولد من نغمين هما البيات والسيكاه، اما الطاهر فهو ناتج من ثلاثة أنغام هي الجهار كاه والبيات والراست.
وقد سميت المقامات العراقية باسماء متعددة، فمنها ما سميت على اسم وتر مثل السيكاه، او اسم عشيرة مثل البيات، او بأسماء المغنيين كالابراهيمي والمنصوري والمحمودي، او باسم مدينة كالاورفه لي، والأوزان، التي تستعمل مع المقامات العراقية، سبعة، هي: وزن الوحدة، والوحدة الطويلة، والجورجنه، والفالس، واليكرك، والنواس، والسماح، وحتى الآن لم توضع نوتة للمقامات العراقية، غير أن بعض الحريصين عليها مهتمون بذلك.
وتغنى جميع هذه المقامات بمصاحبة الالات الموسيقية، وفي مقدمتها العود والكمان والقانون والدف والمزمار.
ويقتصر غناء المقامات المذكورة على المغنين البارزين في المدن الكبيرة، خاصة في العاصمة بغداد. اما في الأرياف فهناك ما يطلق عليه الغناء الريفي، وجميعه باللغة العامية، ومعظمه يتسم اما بالغرام العنيف واما بالمباهاة والمبالغة والالة الموسيقية الوحيدة التي تصاحبه هي الطبل مع حركات المغنين والمرددين والنقر باصابعهم.
وهناك أيضاً الغناء البدوي وتستعمل فيه الربابة والطبل، اما الغناء الكردي فهو مشهور في الالوية الشمالية، ويمتاز بطول نفس المغني وتحلقه في الصوت، وتصاحبه الالات الموسيقية الحديثة كالعود والكمان.
المغنون العراقيون البارزون
لم يشتهر سوى القليل من المغنين العراقيين الذين يتقنون المقامات اتقاناً تاماً، اما الكثرة من المغنين والمغنيات فيقلدون الألحان والمنولوجات المصرية.
ومن المغنين الذين اشتهروا في الغناء، في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، المغني المشهور شلتاغ، الذي كان يغني في حفلات الولاة الأتراك، والمغني أحمد زيدان الذي حافظ على أصول المقامات العراقية. وممن كان يتقن المقامات أيضاً نجم الشيخلي، ورشيد القندرجي، وقد توفوا جميعاً.
أما الحارس الأمين، الحريص على المقامات العراقية الأصلية، فهو المغني الشهير، مطرب العراق الأول، محمد القبانجي الذي حافظ على هذا التراث وطوره حسب الذوق الرفيع، وللقبانجي تلامذة كثيرون يحذون حذوه في الغناء، ويقلدونه، وكان من بينهم المرحوم ناظم الغزالي.
مؤتمر الموسيقى العربية
لابد لنا، قبل أن نختم هذا المقال، أن نذكر دور العراق في النشاط الموسيقي العربي، فقد عقد مؤتمران للموسيقى العربية كان أولهما في القاهرة في سنة 1932، وقد سمي “مؤتمر الموسيقى الشرقية” ومثل العراق فيه بعض المغنين والموسيقيين برئاسة محمد القبانجي.
وكان الثاني في بغداد، وقد عقد في شهر كانون الأول 1964، وسمي “المؤتمر الثاني للموسيقى العربية” على اعتبار مؤتمر القاهرة الأول.
وقد حضر المؤتمر الثاني عدة وفود من البلدان العربية، وبعض بلدان الشرق الأوسط والبلدان الأوروبية، وتلقيت فيه بحوث قيمة عن الموسيقى والغناء العربيين، وعن الموسيقى قديماً وحديثاًـ