فلسطين الجنابي /
الأغاني التي كنت أكتب كلماتها وأخبئها بين دفاتري المدرسية ، حتى عرفت بريدك فصرت أدسها في ورق مغلف وأدس معها الورد المجفف والعطر وخصلات الشعر والكثير من القبل التي لا أذكر من أي قلم شفاه طبعتها إليك، على الأكثر أنه كان مسروقاً من زينة أختي، أو ربما أعارتني إياه صديقة في المدرسة، فمثل هذه الأعمال الخيرية كانت توجد بين الزميلات، ولاسيما حين يتعلق الأمر بحبيب بعيد لا تصله منا غير الكلمات وهذي القبل التي تقطر بالحرمان وبالأغاني الحزينة.
شوق على شوق على حبة حب
كانت أزهار تغني في باب الصف، ولَم تنتبه إلى الست رزيقة وهي تقصفها بنظرات شريرة، في الوقت الذي كنت أكتب رسالة إليك أحملها أغنيات فيروزية، لكن ذاكرة الأغاني أبعد من أيام الثانوية، حتى أبعد من خجلي وأنا أصفق في السيارة التي أقلتنا من بيتنا الطيني الأول إلى المدينة، المدينة التي أذكر من أغنياتها ذلك الشاب الذي كان يتمايل على باب المدخل بين غرفة الجلوس والكليدور (وهو اسم الممر الذي يربط أجزاء البيت بعضها ببعض، فكان الكليدور والهول، وهو غرفة جلوس العائلة فيما تسمى غرفة الضيوف بالاستقبال)، كان يتمايل بشعره (الخنافس) وبنطلونه الجارلس، نحيل العود ترك حب الشباب على وجهه آثاراً، لا أذكر وجهه بالضبط إلا من خلال الصورة التي وجدتها في صرة جدتي بعد سنوات طويلة، حين جاءت لتعيش معنا، كان يضع خوذة سائق دبابة يربض -هو ومجموعة من رفاقه يحيطون بفوهتها- كانوا مبتسمين ومطمئنين جداً لا يكدرهم خاطر الحرب ولا الموت ولا الفقد، وعلى الأرجح أنها أول صورة له في جبهة القتال التي التحق بها بعد إنهائه دراسة السياحة والفندقة. لم أعرف عمي إلا في هذه الصورة الضبابية ،وأذكر ملامحه التي حفظتها -فيما بعد- من صورة علقت في صالة بيتنا، عمي الشاب الذي فقد في أول الحرب العراقية الإيرانية، قيل عنه إنه كان مولعاً بأغاني فريد الأطرش، وأيضا قيل إن صوته حسن جداً، تستحضره ذاكرتي في مشهد وحيد غير واضح، لكن أنغام أغنية: (مزيكا يا مزيكا وحياتك يامزيكا خليني مع حبيبي وعم نرقص يا مزيكا)، تنقل إليّ هيأته وهو يدندنها حين كان واقفاً في باب مدخل الغرفة يتمايل مع الكلمات، ثم لا أعرف كيف غاب ذاك العم الأصغر، الذي انتظره أبي طويلاً ، حتى أنه تعقب كل أسماء الأسرى والمفقودين والشهداء، وحتى الأغنيات، ولَم يعرف عن مصيره شيئاً، أذكر أن خبراً عن عودته قد طاف أرجاء بيتنا بعد أكثر من خمسة وعشرين عاماً، خبراً فزعت له أمي، وطرب له أبي، وبكيت له سراً. كانت مثل تلك الأخبار التي يسربها اليائسون لعلهم يحيون أملاً ما في عودة غريب، لكن الغريب ظل غريباً، حتى نفرته النفوس والذاكرة، وتظل تؤرخه أغنية، فالأغنيات هي الأخرى تاريخ.
صورة عمي المصلوبة على حائط غرفة الاستقبال، التي جاورتها، بعد أحد عشر عاماً، صورة لخالي الطيار، خالي الذي دخل من باب المطبخ وهو يضحك لسماعه صوت أغاني لعرس يقام في القرية، أذكره بدشداشته البيضاء حاملاً ناياً تعب في حفره وتنظيفه ليصير مناسباً لأنفاسه، كان يغني لفاضل عوّاد مستبشراً:
لا خبر لا جفية لا حامض حلو لا شربت،
لاخبر كالو صوانيكم شموع انترست
والتَمن الحلوات من كل بيت التمن..
خالي الذي أخذته الحرب الثانية، ظل حاضراً في النايات القصبية، وفي كل (جفافي) المهر، كانت صورته، هو وعمي، تستقبلان جميع زوار البيت، لا أعرف كيف تنازلت الأسرة عن تاريخ نضالها ووجوه شهدائها، ولا متى لم تعد تحفل بهذا التاريخ، فبعد خمسة عشر عاماً، وفي زيارة خاطفة، عثرت على صورتيهما في مكان لم أكن اتوقعه، فقد وجدت هذين الشابين الأعزبين الذين طوتهما الحروب، قد تنازلت الأسرة عن صورهما التي لم تعد مناسبة لأثاث البيت الجديد! فوجدتهما متعانقين في مخزن الأشياء القديمة على سطح الدار، حيث الثوم والبصل وقدور الطبخ وبعض الكتب والأثاث القديم والكثير من الجرذان! عمي الذي ترك ديواناً مكتوباً بخط يده كان قد اختار له اسم (مذكرات النبي المنتحر)، كان يقرأ فيه قارئه نهاية ضبابية تشبه تلك التي أحملها له في ذاكرتي، في حين غاب خالي تماماً عن حديث بيتنا الذي قضى فيه الكثير من الأيام، وظلت الأغاني تمررهم خاطراً الى روحي وتشق ذاكرتي وتستحضرهم مثل تعويذة تهز الحنين، تنشر الأسماء والوجوه والأماكن، فيطل كل شيء بخضرته الأولى، ندياً وهشاً ورطباً.
ينطوي الوقت كما الأرض، وتتعطر الأماكن بذلك العطر الذي يقلك -في لحظة- نحو الملايين من السنوات التي مضت، فتسمع صوت الله مغنياً،
وهو يبذرنا في أرضه
ويصب علينا الماء والضوء لنكبر،
فكبرنا الى حد النسيان،
فتدق هيام يونس أبواب الناس كلها وتدق باب قلبي، ليفتح، فتطل صديقة طفولتي وابنة عمي الراحلة من دروب الصبا وهي تغني معها يا أم الشال العنابي، ويظل صوتها حاضراً في كل عيون حراگة تصادفني، تلك الأغنية التي فاجأتني بأنها تحفظها حين غنتها في طريق عودتنا من مرقد عمران بن علي بسيارة عمي البيضاء وهي تغني يا أم عيون حراگة گولي شوگت نتلاگى. غير أني أذكرها بحزن أعمق ونحن جالستين في الباص وهي تغني آخر أغنية سمعتها منها:
حايرة والشوك بين عيونج،
خايفة تحبين ويلومونج..
الأغنيات حقا تعاويذ، تصب في دمك الفرح والحزن، الأغنيات هي الصلوات، فأمي التي واظبت على صلواتها في عمر متأخر، كانت أكثر قرباً ورأفة حين كانت تغني. لا أذكر أبي يغني، لكني لا أستطيع أن أذكر أمي بلا أغنياتها، تلك التي تحكي قصصاً عن عشاق ضاعوا، ولَم يصونوا عهودهم ولا حفظوا أحلامهم، لكني أجد وجه أمي حاضراً بكل ثقله في أغنية (كوم انثر الهيل) لحسين نعمة.
أمي التي تشاطر طواشات التمر شهلاوات العيون، سمراوات المحيا، تشاطرهن العمل أيام الگصاص (آخر مواسم التمر) فيما نعمل -نحن الصغار- في تلقي عثوك التمر(عذوق) بجوادر (قطع من القماش السميك أو البلاستيك) خصصت لهذا الغرض، فيما تظل مهنة بسل التمر (تنقيته) مهنة الطواشات (وهن النساء اللواتي يقمن بجمع ما يتناثر من التمر على الارض) واللواتي كن يأتين للعمل بالأجرة.
كانت الطواشات ذوات حديث حلو ومرح، لكنهن قليلات العمل وبطيئات جداً، حتى أن أمي نهرت أخي الأكبر، الذي لم يكمل عمله، ويظل متجاذباً معهن أطراف الحديث، حتى حل المساء دون أن ينهي عدد النخلات المقرر گصاصهن في ذلك النهار. أخي كان معذوراً، فحديثهن شهي مثل عيونهن الشهل (الغرقانة) بالكحل تماماً -كما يصفهن حسين نعمه- وكانت سوالفهن تنشتل في الروح والقلب.
ورغم أني كنت أفضل سهرة الفلم الأجنبي على أغنيات أم كلثوم، نكاية بشقيقاتي اللواتي كن يحرمنني متعة الأفلام في تلك السن الصغيرة، فكنت أجلس في حضن أبي وأطلب منه أن نتابع نشرة الأخبار، في حين كن يهمسن لي أن أطلب منه أن يغير القناة لأن ام كلثوم -ثقيلة الدم- تغني على القناة الثانية، غير أني حفظت أغنيات أم كلثوم باكراً جداً، ما أفزع معلمتي في الصف الرابع حين سمعتني أغني (حفضل أحبك من غير ما أقولك)، فنهرتني عن تكرار ذلك، بينما تغني ماجدة الرومي أيام سكننا في دور المعهد، وأول من ساق صوت ماجدة الى مسامعي كانت ابنة الجيران نبراس التي تعلمت سماعها من خالاتها. أحببت ماجدة جدا، بنفس القدر الذي أحببت فيه طريقة غناء أختي فداء لأغنية (مرة ومرة) لرياض أحمد، وكنا على الطريق بين الكوفة والنجف، تمشي معنا شتلة نرجس، كان الوقت شتاءً عامراً بالخيبة والحب، وكانت الحرب تفرش بساطها على الأرواح، فكان الإنسان في تلك القرى والمدن يودع آخر براءته ونقائه ليستعد لهذا التحول الكبير. غنت فداء كما غنت هند منصور في ممرات المعهد الفني (زعلي طول أنا وياك)، فكانت تبهت لصوتها القلوب وتصفق أحلام، لكني كنت على علاقة بصوت محمد منير أكثر في ذلك العمر، محمد منير الذي عرفته من مسجلة في غرفة أخي الأكبر في أولى سنواتي الست، وكان يغني (شبابيك الدنيا كلها شبابيك)، منير أول من صور لي جمال شكل النوافذ وأنها أوسع من أن تكون مجرد شبابيك، كانت شبابيك تعبر بي حدود البيت أول مرة ليدهسني صوت يهمس في أذني الفيروزية أن العصفورة يمكن تجيء بـ (علبة كلها لعب)، وأن البنت العاشقة لابد لها من تل أخضر وحبيب بعيد ترقيه بالخرزات الزرق..
فاخترعتك أنت.