أبو الحسن المسافري/
لا أعرف السرّ الذي جعل الصورة تقفز إلى ذهني وأنا أطالع ما كتبه توفيق الحكيم وهو يروي حكاية في روايته الموسومة يوميات نائب في الأرياف، هذه الرواية التي صدرت عام 1937 وترجمت ونشرت بالفرنسية عام 1939 وتمّ انتاجها فيلماً سينمائياً من بطولة نور الشريف. يظهر في هذه الرواية فساد المنظومة الإدارية وعدم مقدرتها على تحقيق العدل للفلاحين المساكين، حيث يعرضها الكاتب بأسلوب ساخر.
لم أدرك السرّ الذي جعلني أسرح بخيالي بعيداً ـ وأنا أقرأ الرواية ـ مستذكراً شخصية عراقية مبدعة تمثل ذاكرة العراق الجمعية. إنه الفنان ناظم رمزي.
شجن وإبداع
هذا الإنسان الذي يمتلئ قلبه بالمحبة والإبداع، وتجلى ذلك في عشقه للإنسان والبيئة، فلقد كانت كلّ المدن النائية والبعيدة مدينته وحكاية عشقه. كان يحمل كاميرته ومعها إحساسه المرهف الذي يداعب أمواج الضوء المنسابة من شمس تغسل وجه الأرض يغتسل بمياه النهر الغافي على حلم أخضر وتنتظر العبور إلى الضفة الأخرى عندما تتهاوى في جسد البلم الذي ينتظر العابرين إلى بيوت نائمة بين جذوع النخيل يعمّد قدميه بتراب المدن التي يسكنها الفقراء وتملأ طرقاتها كركرات الأطفال الذين تلتصق بجسدهم دشداشة البازة المقلمة هوية الزمن الماضي، يقتنص الشعارات البريئة التي تكتبها بارتجاف أيدي الحالمين بالثورة وبوطن جديد يصحو على صوت الانقلابات والثورات الدموية والحروب.
وسط الفلاحين والكادحين
ناظم رمزي ذاكرتنا لبلدٍ مترامي الأطراف مليء بالاختلاف والتناقض والأعراق، لكن الجميع كان يقف مشدوهاً فرحاً أمام عدسة ذلك الفتى الذي ولد في عام 1928 وجد طفولته في وسط قرى الفلاحين الذين يوقظهم صياح الديكة عند الفجر ويعيدهم غروب الشمس إلى جدران الطين والزوجات المنتظرات وقصص الحب البريئة المليئة بالوجع والأغاني.
رافق الأطفال في رعيهم الأغنام، تنفس عبق الأرض الطيبة ونسائم الصيف المحمّلة برائحة السنابل، تعلم منها أن العطاء يزيد
الإنسان تواضعاً.
كانت طفولته مليئة بالذكريات والقصص الجميلة، فلقد استمرّ في الترحال من عام 1934 لغاية 1944 تعلّم فيها المعنى الجميل للظلال عندما يهرب من حرّ الظهيرة ليستند الى جذع شجرة وارفة الظلال يراقب انكسار الأشعة وما تخلّفه على جدران الطين المتهالكة وعلى السقوف المليئة بسعف النخيل يراقب النخلة الشامخة عندما يهرب ظلها بعيداً نحو مدن أخرى يحلم بها.
هذا المدلّل
تركت تلك الطبيعة أثراً كبيراً في نفسه وكان يجدها لا تكتمل إلا بوجود الأطفال ووجوه جيرانه وإشارات النسوة على ابن مدير الناحية القادم من المدينة الملونة الكبيرة المليئة ببيوت الطابوق والأرصفة والشوارع المعبّدة بالإسفلت وعربات تجرها الخيول، كيف غادر المدينة إلى هذا العالم البعيد الذي لا يعرف غير شروق وغروب الشمس وتساقط العرق في الأرض الطيبة والسباحة في الجداول والأنهر الفرعية واللعب بالسواقي الصغيرة. حكايات النسوة عن هذا المدلّل الذي يقفز مع الأطفال وتتسخ ملابسه بالغبار وطين السواقي.
في فترة شبابه استطاع أن يشكّل من ملامح الوجوه المليئة بالسمرة وهواجس التعب صوراً مازالت تحكي قصة تلك الأيام الماضية لزمن بعيد منح تلك الوجوه فضاءات كبيرة من الأمل وفسحة واسعة من الفرح برغم شظف العيش وقساوة الحياة، بورتريهات مليئة بالحياة ومسحة من الحزن تغلّب عليها بعدسته ليرسم هالة من الفرح على عيونهم.
وبرغم أحلامهم البسيطة التي لا تتعدى رغيف الخبز رسم لهم الحلم في وطن يتسع ويكبر ويضم بين جناحيه الفلاحين والعمال والطبقات المسحوقة، كأن صوره تختصر حكاية رغيف الخبز والوطن والطفولة المرحة.
تنقّل مع عدسته في الأزقة والحارات، تابع الشمس وصنع من أذيالها المترامية أجمل الأعمال، كان ينهل من المدينة والريف وأحلام البسطاء ويصنع منها قصصاً تشابه ألف ليلة وليلة، يستوقف المارة ويقتنص صورة لذلك الحمّال الذي يقف أمام المسجد حين تتساقط عليه الظلال ويبحر في ثنايا الطفولة البريئة الفرحة وهي تقف وخلفها تأريخ الثورات الغاضبة. كان العراق كلّه يلتصق بعدسته من شرقه إلى غربه ومن شماله إلى جنوبه.
الضوء كان يشكّل لديه جدائل حبيبة يطاردها في كلّ مكان ويبعث لها آلاف الرسائل الفوتوغرافية.
في عام 1959 كان المعرض الشخصيّ الأول له برعاية الزعيم عبد الكريم قاسم. لم يتوقف طموحه عند الصورة، بل تعدّاه إلى عالم الرسم والطباعة والألوان فكان تواقاً للتجدد والإبداع ومولعاً بالحروف.
أنجز العديد من الكتب الجميلة التي تناولت أعماله الفوتوغرافية التي تعد من أجمل الكتب التي كان الإنسان حاضراً فيها وهي «العراق: الأرض والناس (لندن، 1989)، و»من الذكرة» (بيروت، 2008)، وكتاب «العراق: لقطات فوتوغرافية لبعض ملامح الحياة في القرن العشرين» (بيروت، 2009)، وأخيراً كتابه «جولتي مع الكاميرا» الصادر (2010)، في عمّان – الأردن.
صدى الذكريات
تنقّل في أغلب مناطق العراق ووثّق بالضوء أجمل الحكايات والقصص. اغترب في لندن ليقضي بقية أيامه بعيداً عن الوطن والأحبة مع صدى الذكريات الموجعة والألم. ودّع الحياة بإطلالة أخيرة لمدينة مليئة بالضباب بعيداً عن محبيه في أيلول 2013 . وقف المرحوم «فؤاد شاكر» وهو يمسح أنهار الدموع التي فاضت من عينيه وارتسمت في عينيه مدينة مليئة بالأشباح وتناهى لسمعه أنين الذكريات. لقد أفل نجم آخر من نجوم الوطن لتكتسي سماؤه بالظلمة.