رجاء خضير /
القلوب القاسية لا يمكنها معرفة الرحمة حتى ولو لأقرب الناس، فما بالك أيها القلب تغفرُ لمنْ تشاء وتسامح من تشاء، ألم تعلم أيها القلب أن الطيبة أصبحت مفردة قديمة وحلتّ بديلاً عنها الأنانية التي رغماً عنها أسألك يا قلب أن تبقى كما أنت..
كلمات المقدمة، شعرتها تماماً في عيني (ف..) ونبرة صوته وهو يروي قصته، أو قصة قلبه المتسامح إزاء تصرفات (ع..)، شقيقه الأكبر الأناني، الذي لم يعرف يوماً سوى مصلحته وسعادته الشخصية ولو على حساب أقرب المقربين إليه.
يبدأ (ف..) القصة قائلاً:
توفي والدنا ونحن صغيرَين جداً، كان عمر شقيقي الأكبر نحو سنتين وكنت أنا في شهري السادس، لذلك لم نعرفه إلا من خلال الصور. تربينا في حضن أمنا الدافئ، التي رفضت الزواج رغم أنها ترملت وهي بالكاد في الخامسة والعشرين من عمرها وتفرغت لتربيتنا ولم تقصر معنا.. كانت نعم الأم والأب معاً.
لاحظ (ف..) منذ أن بدأ يعي ما حوله أن شقيقه (ع..) يحاول أن يستحوذ على كل شيء، وأنه لا يفرح لتفوق شقيقه في الدراسة، لكنه احتفظ بمشاعره ولم يصارح والدته مخافة أن يكون إحساسه ليس بمكانه.
تخرج الشقيقان في الجامعة بمساعدة بعض الطيبين ولأجل أمهما المكافحة، تعينا في المؤسسة نفسها، وقرر (ف..) أن يكون أميناً مع نفسه وأن يعمل بجد. وبعد أول تكريم له، بدأ (ع..) يحاول إزعاجه في العمل كي لا ينجح، بل بات يمتعض كلما مدح الأهل او الأصدقاء او المسؤولون أخاه في دائرته. ومرة أخرى، لم يحاول (ف..) أن يعاتب شقيقه الأكبر أو والدته لكي لا يحدث شرخاً في العائلة، وقرر أن يتجاهل تصرفات (ع..)، وغالبا ما كان يقنع نفسه بأنه على خطأ وبأنه يستفز شقيقه.
وللابتعاد عن المشاكل، تقدم بطلب نقل إلى دائرة أخرى في المؤسسة نفسها، وصارح أمه برغبته في الزواج من (ش..)، ابنة الجيران، وأنهما يرتبطان بعلاقة حب منذ سنوات. فرحت الأم بالخبر، ولاسيما أن الفتاة وأهلها معروفون بسمعتهم الطيبة في المنطقة، وحددت يوماً قريباً لزيارة أهل الفتاة لطلب يدها.
في اليوم التالي لاتفاقهما، لاحظ (ف..) أن أمه، على غير عادتها، بدت حزينة ولم تكن تتحدث، سألها عما يقلقها ويحزنها فلم تجب، لكنها أمام إصراره، أجابته قائلة “شقيقك يحب الفتاة نفسها وطلب مني أن أخطبها له!”
يكمل (ف..):
كان شقيقي يعرف علاقتي بها وربما سمعني وأنا أطلب من أمي أن تخطبها لي، انتظر حتى أخرج من البيت ليطلب منها أن تخطبها له. شعرت بحزن عميق وصرخت لماذا؟ لتطالبني أمي بالسكوت وعدم التهور وارتكاب ما قد أندم عليه وأفقد شقيقي.. لكني لم أسكت وصارحتها بتصرفاته ضدي التي كنت أخفيتها عنها كي لا أصدمها، لكنها صرخت في وجهي وتوقفت عن الكلام.
أشعرني شقيقي بأنه سمع حواري مع أمنا، فقرر أن يحدد علاقته وأحاديثه معي، وحاولت أمنا أن تذيب الجليد بيننا، إلا أنها فشلت وصارحتني بأنها متألمة من تصرفاته وأنها ستذهب معه لخطبة (ش..) له مرغمة لأنه يصر عليها.
يضيف:
لم يحزنني موقف شقيقي بالقدر الذي أحزنني فيه موقف (ش..) التي وافقت مباشرة، ولم أحاول الاتصال بها لأعرف السبب. بعد الخطوبة بأيام، راجعته فتاة في دائرته وقدمت نفسها: ابنة خالة (ش..)، وأبلغته أن حبيبته ما تزال تحبه وتتساءل عن سبب تخليه عنها لشقيقه؟ لم يجد جواباً، فهو يعرف مسبقاً أن ما سيقوله سيؤلم أمه، واعتذر منها قائلاً إن شقيقه يحبها، لكنه أيقن أن شقيقه قد أبلغها بتخليه عنها، ما أرغمها على الموافقة مباشرة.
ولأجلها، تحدث (ف..) مع (ع..) المعروف بتعدد علاقاته النسائية بأن ينتبه إلى تصرفاته كي لا يجرح (ش..) التي أصبحت زوجته وحاملاً بطفله. لكن (ع..) نهره بشده وطالبه بعدم التدخل في شؤونه وحياته الخاصة.
يكمل (ف..):
قررت السفر إلى الخارج لإكمال دراستي العليا، هكذا سأبتعد عن الظروف التي تسببت بها أنانية شقيقي، شجعتني والدتي التي كانت تشعر بألمي، واستمرت تتصل بي وتشكو من تصرفات شقيقي وأخبار علاقاته النسائية التي لم توقفها ولادة ابنه الذي كانت تصفه بالجميل.
وصلت أخبار علاقة شقيقه بأرملة وأم لولدين إلى أسماع زوجته (ش..)، فاتصل به (ف..) لينصحه بالاهتمام ببيته وابنه، لكنه لم يستمع إليه. ويوماً، وهو يتحدث مع السيدة التي (يحبها) سمعته زوجته التي أخذت ابنها وذهبت إلى بيت أهلها تطالب بالطلاق. وتدخل الأهل وأعادوها إلى بيت زوجها.. واتصل (ف..) به مرة أخرى متوسلاً إليه أن ينتبه إلى ابنه في الأقل، لكنه رفض الاستماع إليه، بل أخبره بأنه سيتزوج من السيدة التي يحبها، فهي جميلة جداً وتختلف عن (ش..) كثيراً في أناقتها وأنه قرر التخلص من زوجته بالطلاق أو.. ولم يكمل جملته.
شعر (ف..) بالخوف على شقيقه المتهور الأناني وعلى زوجته، فاتصل بوالدته وشرح لها مخاوفه وأنه لا يريد الاتصال بـ (ش..) كي لا يثير فتنة في البيت، فنصحته والدته بأن يركز على دراسته وأنها ستحاول إيجاد حل ما. وتوقف عن السؤال عن شقيقه من والدته حين تتصل به، وقبيل مناقشته أطروحته اتصل بوالدته وأبلغها بأنه سيغلق هاتفه ليتهيأ للمناقشة، وأخبرته أن شقيقه اصطحب زوجته في رحلة إلى دولة مجاورة بسيارته وتركا الطفل الذي أصبح عمره ثلاث سنوات تقريباً عندها. قلق (ف..) بسبب سفرة شقيقه المفاجئة مع زوجته وعدم أخذه ابنه معهما. وانشغل بالاستعداد للمناقشة، وبعد الانتهاء منها بتفوق فتح هاتفه ليزف الخبر إلى والدته التي بكت عند سماعها صوته ولم تمنحه وقتاً ليخبرها بتفوقه إنما قاطعته قائلة: “لقد تعرض شقيقك وزوجته إلى حادث سير على الحدود وتوفيت (ش..) وأصيب (ع..) بجروح وأمضى أياماً في المستشفى وخرج متعافياً.”
أغلق (ف..) الهاتف مصدوماً وحاول أن يبعد عن تفكيره أن شقيقه ربما دبر الحادث للتخلص من زوجته، وتذكر مكالمته الهاتفية وهو يقسم بالتخلص منها، فأعاد الاتصال بوالدته التي أكدت له أن شقيقه (ع) حزين جداً ويحتاج منه أن يعود بسرعة ليقف إلى جانبه.
عاد (ف..)، ولم يكن هناك مجال للاحتفال بنجاحه وتفوقه، فقد كانت عائلته وعائلة (ش..) تمران بمرحلة حزن كبير، لكنه لاحظ أن (ع..)، الذي من المفروض أن يكون أكثرهم حزناً، كثير الخروج من البيت ويعود غالباً بعد منتصف الليل، بل أحيانا لا يعود ويقضي لياليه خارج البيت وينسى أن له ابناً فقد أمه ويحتاج إلى حنانه.
يقول (ف..):
مؤخراً، قررت أن أراقب تصرفات شقيقي غير الموزونة وسمحت لنفسي أن أتنصت إليه حين يتحدث بالهاتف، سمعته قبل أيام وهو يتحدث إلى امرأة ما ويقول لها غاضباً: “لماذا لا تقررين، بماذا ستطالبين أكثر، لقد وفيت بوعدي لك وتخلصنا منها، فماذا تريدين بعد؟ وفيتُ بوعدي لكِ وتخلصنا من..،” وسكت حين رأى ظلي قريباً منه, فواجهته بما أشعره وصرخت بوجهه أنه دبر الحادث للتخلص من زوجته من أجل امرأة أخرى، لكنه أسكتني صارخاً وقال إنه سبق أن طالبني بأن لا أتدخل في شؤونه الخاصة، وأن ما أقوله هو مجرد هراء لأنه كاد أن يقضي في ذلك الحادث أيضاً.
ينهي (ف..) حديثه، أو مخاوفه، قائلاً:
بحثت عن صور الحادث وذهبت إلى مركز الشرطة في المدينة الحدودية لأعرف تفاصيله، فاكتشفت أن شقيقي كان يقود بسرعة كبيرة، ولتفادي شاحنة انقلبت سيارته فتوفيت زوجته في الحال ونقل هو إلى المستشفى، يبدو أنه حادث غير مدبر، ربما، لكنني ما أزال ألوم نفسي، كان عليّ أن اتمسك بـ (ش..) وأن لا أدع طيبة قلبي وخشيتي على مشاعر والدتي في أن أصدمها بحقيقة شقيقي، لكي تسيطر على قراري وأوافق على أن يتزوجها شقيقي الأناني غير الملتزم ليكون الموت المأساوي مصيرها.. أعرف مسبقاً أن قلبي سيستمر طيباً وأن شقيقي (ع..) سيستمر أنانياً بقلب قاس، وسنهتم، أمي وأنا، بابنه ليكبر بقلب طيب..