شارع الرشيد 100 عام من البريق والأصالة.. والاهمال والإنطفاء!

965

عبد الجبار العتابي/

في يوم الثالث والعشرين من تموز الماضي يكون شارع الرشيد قد بلغ من العمر مئة عام بالتمام والكمال، لانه في ذلك اليوم من عام 1916 تم افتتاحه بشكل رسمي، وان بدأ العمل فيه عام 1911 في زمن الوالي العثماني ناظم باشا الذي حمل الشارع اسمه أولا لكن الانكليز الذين احتلوا بغداد فجر 11 أذار عام 1917 اكملوا فتح الشارع لاعمالهم العسكرية، لكن قيام الحكم الأهلي الوطني في العام 1958 استبدل اسم الشارع ليحمل اسم الرشيد وهو يعد أول شارع يشق في العراق وفق المفهوم الحديث للتخطيط على الرغم من الانتقادات التي وجهت اليه كونه يوازي نهر دجلة.

في يوم الشارع الذي حمل مئة عام على عاتقه لابد من نظرات اليه لاسيما ان الشيخوخة قد نالت منه وتغيرت ملامحه وصار في حالة يرثى لها بسبب الاهمال الذي طاله حتى اصبحت بناياته عاجزة عن حمل نفسها، لكننا نجد من الضروري الاحتفال به على الورق لانه يستحق ولان الرقم مئة من عمره يجعلنا نتوقف طويلا لنتذكر شيئا من أيامه الخوالي ونشير الى واقعه (التعبان) ونذكّر من يهمه الأمر به.

شارع من الألوان والعطور

وصف الشاعر الكبير عيسى حسن الياسري شارع الرشيد بأنه شارع من الألوان والعطور، وقال: لم أزر بغداد حتى صيف عام 1961 .. وقتها كنت ناجحا من الأول إلى الثاني – دار المعلمين الإبتدائية في العمارة – كنا نقطن مدينة – الكوت – التي عين والدي معلما في احدى مدارسها.

غادرنا البيت والدي وأنا قبل إشراقة الشمس.. وصلنا بغداد ضحى.. كان أول شارع ندخله هو – شارع الرشيد – كان والدي هو مرشدي السياحي.. فقد زار بغداد مرات عديدة.. أخذنا استراحة قصيرة في أحد الفنادق.. وبعدها نزلنا لنتناول طعام الغداء في مطعم اسمه – مطعم الصباح – لقد تناولت طعامي في مطاعم عالمية كثيرة لكنني لم اعرف منها مايرقى إلى نظافة – مطعم الصباح – ومذاق طعامه.. واناقة ملابس العاملين فيه.. بعد مغادرتنا المطعم واصل والدي سيره.. لم تضايقنا الظهيرة الساخنة.. كان الهواء البارد والمضمخ بالعطور ينعشنا.. وكنت منشغلا بتأمل نساء هذا الشارع الجميلات بازيائهن المبهرة.. وشعورهن التي يراقصها الهواء.. وواجهات المحال المضاءة بالنيون برغم سطوع النهار.. والأكشاك التي تعرض الصحف والمجلات.

حين بكى الشاعر حزنا عليه!

وتابع: دخل بي والدي مقهى كتب على واجهته اسم – مقهى البرازيلية – كان مقهى كبيرا يعبق برائحة القهوة التي طلبها والدي .. امّا أنا فطلبت – الآيس كريم – الذي احبه.. وقد لفت انتباهي ذلك الهدوء الذي يتسم به جو المقهى.. ورواده الذين يطالعون الكتب أو الصحف والمجلات.. اخبرني والدي ان رواد هذا المقهى جلهم من الأدباء أو المثقفين أو طلاب الجامعات..
وختم بالقول: في عام 2004 زرت العراق.. وقفت في منتصف – شارع الرشيد – وبكيت.. اقسم انني بكيت.. بكيت وبصوت عال.. لم ار – شارع الرشيد – كانت هناك حاوية نفايات كبيرة.. واسطبل تستريح فيه الخيول التي تجر العربات من تعبها.. فهل سيقوم – شارع الرشيد – من موته هذا؟ هل سيقوم شارع الرشيد القتيل من موته؟ .

مات عام 1962

أما الكاتب صباح عطوان فقد اكد ان الشارع مات منذ عام 1962، وقال: شارع الرشيد هو المسرح العمالي بالنسبة لي عند بدايته.. أما من الناحية التراثية فاتذكر انه كان في أواخر الخمسينات والستينات مركزا للنشاط التجاري والفندقي والمكتبي، كذا عرفت فيه سينمات قديما كالزوراء وروكسي والخيام وغيرها وفيه مقهى حسن عجمي والبرازيلية ومقهى الزهاوي وتمتاز منطقة الحيدرخانة منه بإصالة وفرادة خاصة لوجود الجامع وشارع المتنبي ومقهى الزهاوي وسوق الهرج وكعك السيد وخلفيتها المجمع العثماني، كذلك اتذكر ستوديو ارشاك وفي خلفية الشارع وجود زقاق شارع النهر، ولشارع الرشيد اهمية في انه كان منطلق التظاهرات الوطنية أو مصبا لها كتظاهرات وثبة كانون ومسيرات دعم ثورة 14 تموز، كذلك شهدت محاولة اغتيال عبد الكريم قاسم.

واضاف: لكن الشارع ما كان يشكل لي ذاكرة وجدانية أو حسا عاطفيا مرتجعا فانا لست ممن يجلسون في المقاهي ولا احب الحركة كثيرا، فاميل الى البقاء بمكتبي أو في البيت، لكنني استمديت من شارع الرشيد بعض اجزاء روايتي (المس) وروايتي الثانية (شبح الرغبة)، فالمس تدور احداثها في البارودية وشبح الرغبة تدور احداثها في الصابونجية والميدان.

ذكريات الطفولة والشباب

من جانبه اكد السينمائي علاء فائق تعرفه على العديد من الشخصيات في الشارع،، وقال: شارع الرشيد الذي تربينا في عزه.. كان بالنسبة لي هو المركز الثقافي للبغداديين منذ أيام طفولتي الى أن تركت العراق في سبعينات القرن الماضي، فمن شارع الرشيد أكتشفت، كطفل، عالم السينما بما كانت تقدمه السينمات الممتدة على طوال الشارع من جسر الشهداء الى جسر الجمهورية.

واضاف:عندما كنت طفلاً أحب ان أخرج مع والدي المرحوم الفنان الرائد يحيى فائق ولقد إلتقيت بكثير من الشخصيات الفنية والأدبية من جيل الرواد الذين كانوا يلتقون في مقاهي شارع الرشيد خلال النهار، ومن الشخصيات التي كانت تسكن في شقة بشارع الرشيد قرب ساحة حافظ القاضي الفنان الرائد كريم مجيد وكان الوالد يزوره كثيراً وهناك وفي المقهى البرازيلي ألتقيت بالشاعر حسين مردان الذي كان أحد أصدقاء الوالد.

وتابع: الشخصية الأخرى التي أتذكرها كان بدر شاكر السياب الذي كان يتوقف عند ستوديو التصوير الفوتوغرافي الذي فتحه الوالد في خمسينات القرن الماضي.. وأتذكر بدر الحزين وكانوا يتحدثون في قضايا الشعر الحديث وآلم السياب من ناقديه.. علماً أن الوالد صور ثلاثة بورتريت مميزة للسياب.

ذاكرة شعب كامل

من جانبه قال الروائي شوقي كريم حسن: يشكل شارع الرشيد ذاكرة جمعية لجميع الأجيال الثقافية حيث كانت المطابع ومقرات الجرائد تتخذ من ضفتيه مقرات لها. جئنا في سبعينات القرن الماضي لنجد من سبقونا يجلسون في مقاهي “البرلمان” التي كانت تسقبل جيل الستينات و”الزهاوي” و”الأعيان” وفيما بعد انتقلنا الى “حسن عجمي”. نتجمع كل ظهيرة اربعاء لتتحول المقهى الى محفل سياسي أدبي.. حوارات في كل شيء، ومن حسن عجمي تبدأ رحلتنا مشيا وسط شارع الرشيد.. وصولا الى مقهى البرازيلي أو الى واحدة من صالات السينما أو باراته التي تستقبلنا بهدوء وسكينة.. نظل طويلا في مكتبة مكنزي التي سرقت ولأول مرة منها كتابا.. كان موسوعة جيمس جويس. وفي سينما الشعب حيث اصطحبني ابن خالي شاهدت أول فيلم في حياتي وكان عراقيا هو حمورابي.. ومنها تعلمت حب السينما.
وتابع: شارع الرشيد ذاكرة شعب كامل وأعمارنا انما خلقت هناك، بين ثناياه بكى الحصيري وترنح حسين مردان وتنادت القوى الوطنية لاسقاط الحكومات المتتالية وعند منتصفه تعالى رصاص وثبة كانون.. ولايزال بارود محاولة اغتيال الزعيم عبد الكريم قاسم يزكم الأنوف.. لهذا أرى ان حملة مقصودة من أجل القضاء على تاريخ هذه الجادة مثلما هناك حمالات أخرى لمحو كل ماهو تاريخي مقدس.

أيام التسكع الجميل

الى ذلك استذكر الناقد السينمائي مهدي عباس علاقته بالشارع قائلا: شارع الرشيد يعني لي ذكريات الصبا والشباب الجميلة كل ماكان فيه جميلا، مكتبة مكنزي كانت واجهتي لشراء الكتب الانكليزية أيام الدراسة في كلية الآداب قسم اللغة الانكليزية وكذلك دار الكتب القديمة مقابل المربعة والتي كانت مملوءة باقدم الكتب والمجلات وبشتى انواع الفنون والعلوم.
واضاف: أما سينمات شارع الرشيد فكنت أخذ الشارع بالطول ادخلها سينما سينما اتعرف على الأفلام والبوسترات حتى اختار فيلما لادخله، ابدأ بسينما الرشيد ثم الوطني ثم علاء الدين والشعب أو الزوراء حتى انتهي بمجمع روكسي البهي بعمرانه والذي يضم روكسي وريكس وريكس الصيفي،، وهل انسى همبركر ابو يونان اللذيذ أو كيك الزيزفون أو مقهى البرازيلي الذي كان يجذبنا برائحة القهوة ونحن نمر من بابه.

وختم بالقول: شارع الرشيد هو كل الأيام الخوالي والذكريات الجميلة وأيام التسكع الجميل.